المواضيع الأخيرة
» Sondos
الأربعاء 28 أغسطس 2024, 07:35
» Sondos
الأربعاء 28 أغسطس 2024, 01:17
» Sondos
الثلاثاء 27 أغسطس 2024, 23:02
» Sondos
الثلاثاء 27 أغسطس 2024, 04:44
» Sondos
الثلاثاء 27 أغسطس 2024, 01:06
» Sondos
الإثنين 26 أغسطس 2024, 20:57
» Sondos
الأحد 25 أغسطس 2024, 23:20
» Sondos
الأحد 25 أغسطس 2024, 19:57
» Sondos
الثلاثاء 20 أغسطس 2024, 22:17
» Sondos
الإثنين 19 أغسطس 2024, 17:59
المواضيع الأكثر نشاطاً
ماهي الحكمة ؟؟
ماهي الحكمة ؟؟
الحكمة ؟
قال تعالى
{ يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ }
ماهي الحكمة ؟
أ.د. عبدالكريم بكار
يقول الله (جل وعلا) : {
يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [البقرة : 269] .
وردت
كلمة (حكمة) في مواضع عديدة من الكتاب العزيز ، وذهب المفسرون إلى تفسير
معناها في كل موضع بحسب السياق الذي وردت فيه ، فتارة تُفسر بالسنة ، وتارة
بالموعظة ، وتارة بالقرآن ...
أما في هذا الموضع الذي نحن بصدده ، فإن
للعلماء في تفسيرها أقوالاً كثيرة ، منها : النبوة ، والفقه في القرآن ،
والمعرفة بدين الله ، والفقه فيه ، والاتباع له ، والخشية ، والورع [1] ...
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال في (الحكمة) : إنها المعرفة بالدين ، والفقه في التأويل ، والفهم الذي هو سجية ، ونور من الله (تعالى) [2] .
ولعل
هذا القول هو أقرب الأقوال السابقة إلى الصواب . والذي يبدو لي : أن
الحكمة تتجاوز المعلومات الجزئية إلى المفاهيم الكلية مع نوع من التطابق
بين معارف الحكيم والمواقف العملية له ؛ ومن ثم قيل إن الحكمة تعني : وضع
الشيء في موضعه ؛ وإن كنا نرى أن ذلك أحد تجليات الحكمة ، وليس جزءاً منها ،
لكنهم لمحوا أن المواقف الصحيحة الملائمة هي التي تكشف عن حكمة الحكماء .
ولعلنا نحاول الحوم حول حمى الحكمة ، وحول بعض تجلياتها وتجسيداتها في المفردات التالية :
1-
إن تاريخ الإنسان هو مكافحة (العماء) و (اللاتكوّن) في داخل نفسه وفي
خارجها ؛ فهو يحاول أبداً صياغة المفهومات والرؤى التي تمكّنه من فهم مركزه
في هذا الكون ، ومعرفة المحيط الذي يعيش فيه بغية فهم الموقف الصحيح
والخطوة المناسبة .
ومهما بذل الإنسان من جهود في سبيل الوصول إلى ذلك
فإن نجاحه يظل نسبيّاً ، كما أن تقدير الناس لذلك النجاح سوف يظل متفاوتاً ؛
حيث إن مبادئ الإنسان ومعارفه تتحكم دائماً في بلورة رؤيته للأشياء ؛ ومن
ثم : فإن موقفاً ما قد يكون في نظر واحد منا حكيماً ، على حين ينظر إليه
آخرون على أنه طائش وخائب ؛ إلا أن الأيام بما تجلّيه من عواقب ونتائج وبما
تركمه من نماذج تساعدنا على نوع من توحيد الرؤية والفهم .
2-
إذا كنا نختلف حول تعريف الحكمة فإنه سيظل بالإمكان تحليلها إلى العناصر
المكوّنة لها ، وهي على ما يبدو لي ثلاثة : الذكاء ، والمعرفة ، والإرادة ؛
فالذكاء اللماح ، والمعرفة الواسعة ، والإرادة الصُلبة تكوّن معاً :
(الحكمة) ، وعلى مقدار كمال هذه العناصر يكون كمالها .
الذكاء بمفرده
لا يجعل الإنسان حكيماً ؛ إذ الملموس أن الذكاء دون قاعدة جيدة من العلم
والخبرة ينتج فروضاً ومعرفة (شكلية) ، كما أن المعرفة دون ذكاء تجعل
استفادة صاحبها منها محدودة ، وتجعل وظيفته مجرد الحفظ والنقل ، دون التمكن
من غربلة المعرفة أو الإضافة إليها . والأهم من هذا وذاك : أن المعرفة دون
ذكاء تؤخر ولادة الموقف الحكيم ، وتجعل الواحد منا يأتي بعد الحدث بسبب
ضعف البداهة .
ولا يكفي الذكاء اللمّاح ، ولا الخبرة الواسعة في جعل
الإنسان حكيماً ما لم يمتلك قوة الإرادة ؛ لأن الإرادة القوية وحدها هي
التي تجعلنا ننصاع لأمر الخبرة ، وهي التي تنتج سلوكاً يختفي فيه الفارق
بين النظرية والتطبيق .
الذكاء موهبة من الله (تبارك وتعالى) ،
والمعرفة الواسعة كسب شخصي ، والإرادة القوية هدية المجتمع الناجح لأبنائه
البررة ؛ فهو الذي يحدّد العتبة والسقف المطلوبين للعيش فيه بكرامة على
مستوى الإرادة ، وعلى مستوى القدرة ، وهو لا يمنح القدرة ، لكنه يمنح
أفراده إرادة الفعل والكف من خلال نماذجه الراقية ، ومن خلال المراتبية
الاجتماعية التي يصوغها تأسيساً على الاستجابة لأوامره .
3-
إن المعرفة مهما كانت واسعة لا تعدو أن تكون إحدى مكوّنات (الحكمة) ، ومن
ثم : فإن هناك فارقاً بين العالِم والحكيم ، فقد يكون المرء قمة في تخصص من
التخصصات ، لكنه لا يُعدّ حكيماً ، كما أن الحكيم قد لا يكون عالماً
متبحراً في أي علم من العلوم .
العلم يفكك المعرفة من أجل استيعابها ،
فيقوم بتنظيمها وتوزيعها على مساقات كثيرة ، أما الحكيم : فيقوم بتركيب
المعرفة النظرية مع الخبرة العملية من أجل بناء وتشكيل المفهومات العامة في
سبيل الوصول إلى رؤية شاملة تندغم فيها معطيات الماضي والحاضر والمستقبل .
العلم يمكننا من صنع الدواء ، وصنع السلاح ، لكن الحكمة تجعلنا نعرف متى نداوي ، ومتى نحارب .
العلماء
كثر ، والحكماء نادرون ؛ لأن تحليل المعرفة أسهل من تركيبها ، والعمل
الدعوي اليوم ليس فقيراً في الاختصاصيين ، لكنه محتاج حاجة ماسّة إلى
الحكماء العظام الذين يمزجون بين العلوم والثقافات المختلفة ، ويخلصون منها
إلى محكات نهائية في الإصلاح والنهضة ومداواة العلل المستعصية ...
إن
الحكمة أُم الوسائل والأساليب ، لكنها أكبر من أن تحصر في أي منهج من
المناهج ، إنها معرفة تتأبى على التنظيم ، فهي دائماً مرفرفة ، على حين أن
العلم معرفة منظّمة ، وكل العلوم يبدأ تفتحها على أنها حكمة ، وتنتهي إلى
أن تكون فنّاً ، أي : إنها تفقد طاقتها على التجدد بعد أن يتم سجنها في
قوالب جاهزة ، وتصبح بحاجة ماسّة إلى أن ترفرف من جديد ، أي : أن تطعّم
بالحكمة . ومن ثم : فإن الحكمة تتأبى على الاستنفاذ ، ولذا : فإنها الخير
الكثير الفياض المتجدد الذي يهيئه الله (تعالى) لمن شاء من عباده .
4-
جفل الوعي الإسلامي قديماً من (الفلسفة) ؛ لأن أكثر فلاسفة المسلمين
أخرجوا الفلسفة من إطار الوحي وإطار النصوص والمعطيات الشرعية العامة ،
فصارت المفاهيم الفلسفية غريبة عن البنية الثقافية الإسلامية ، بل مصادمة
لها .
وفي العصر الحديث : لم تنشأ لدينا مدارس فلسفية ، وإنما اتباع
لفلاسفة الغرب ، ومروّجون لفلسفة مادية أجنبية محورها الأساس : هدم عقيدة
الألوهية وتدعيم الإلحاد ... فاستمر الجفاء بين الاختصاصيين (العلماء) وبين
ذوي النظر الكلي والرؤية العامة .
إن الناظر في الآيات الكريمة التي
وردت فيها كلمة (الحكمة) : يجد أنها ما اقترنت بذكر (الكتاب) إلا كانت
تالية له ، وكأن في ذلك إشارة إلى أن الحكمة بما هي مفاهيم ونظر كلي لا يصح
أبداً أن تتشكل خارج مبادئ الكتاب ومعطياته الكبرى ؛ إنه القيّم والمهيمن
عليها ، وليس في ذلك حد من عطاء الحكمة وانطلاقها ، ولكنه إمساك بها كي لا
تفقد اتجاهها ومحورها ؛ فالعقل البشري على سعة إمكاناته لا يستطيع أن يعمل
بكفاءة إلا من خلال إطار توجيهي يمنحه شيئاً من الثوابت وصلابة اليقين .
وقد
آن الأوان لتنشيط حركة علمية لا تغرق في التخصصات لكنها تستفيد منها
جميعاً : في تنسيق الواقع في ضوء المثال ، وفي إدراك العلاقات الخطية
والجدلية التي تربط بين الأشياء ، وفي معرفة سنن الله (تعالى) في الخلق ...
آن الأوان لترك التقدم العلمي لأهل التخصصات يغوصون على مفردات العلوم
، ويضيفون إلى فروع المعرفة كل يوم جديداً ، والسعي إلى تكوين جيل جديد من
الحكماء والمصلحين ذوي النظر الكلي والثقافة المَزْجية ، الذين يستخدمون
المعارف المختلفة في بناء النماذج الحضارية الخاصة والمشروعات النهضية
الشاملة .
وفي اعتقادي أن الحاجة إلى (الحكماء) سوف تزداد ؛ إذ إن
المعرفة البشرية على وشك إكمال دورتها ، وعصر ثورة المعلومات الذي بزغ فجره
سوف يكون أقصر العصور الحضارية ، ثم يأتي زمان الأسئلة الكبرى : أسئلة
الهوية ، وعلل الوجود ، والمصير ، وطبيعة الكينونة البشرية وحدودها ،
وحقوقها .. أي : إن الفلسفة قد تستعيد مجدها القديم ، لكن ضمن معطيات
ومساقات جديدة ، وبلغة شديدة التعقيد ، وعلينا منذ الآن أن نحضّر أولئك ،
الذين يستطيعون فهم أسئلة العصر القادم ، ويحسنون الجواب عليها .
5-
الإرادة الصُلبة مكوّن أساس من مكونات ( الحكمة ) كما ذكرنا وهي (الإكسير)
الذي يحيل المعرفة النظرية إلى نماذج متحققة في الواقع المحسوس ، إن
الحكمة نور داخلي يشكل مفهومات كثيرة متباينة ، ويدمجها في نظم أشمل ،
فتبدو منسجمة متناسقة ، لكن الحكيم لا يبدو كذلك ، فهو طراز فريد ، ونموذج
خاص ، يصعب تقنين عطاءاته وتوجهاته ومواقفه ؛ لأن طبيعة الحكمة تتأبى على
التحقق الكامل ، ومن ثم : فإنها تلوح في بعض المواقف والسلوكات لتدل على
فضل الله (تعالى) على أصحابها وتوفيقه لهم . وتلك المواقف تفوق الحصر والعد
، لكن نذكر بعضها من أجل التقريب :
أ-
الحكمة نمو دائم ، فالمزج الفاعل بين الذكاء والخبرة والإرادة يجعل
مفهومات الحكيم في نوع من الحركة الدائبة ، مفهوم يكبر ، وآخر يضمر ، ونقط
تزداد تفصيلاً ، وأخرى تزداد تركيزاً ، أفكار جديدة لديه تفقد بريقها بسرعة
، وأفكار قديمة تنبعث حية لتخط خطّاً جديداً ...
هذه الوضعية تجعل
الحكيم في حالة من التألق الدائم ، وهذا التألق قد يفسّر لدى الكثيرين على
أنه تناقض واضطراب ، على حين أنه نوع من الاستجابة الناجحة للمرونة الذهنية
العالية ، والروافد الثقافية الثرية ، والإرادة الحرة الصُلبة ، لكن كل
ذلك يأخذ سمة التغيّر لا التبدّل .
ب-
إيثار الآجل على العاجل ، والدائم على الآني ، وما يمليه ذلك من مواقف
والتزامات : أكبر سمة من سمات (الحكيم) ، والشرائع السماوية كلها جاءت
توجّه الناس نحو هذه الفضيلة ، لكن إغراءات المنافع والملذات العاجلة صرفت
جلّ الناس عن الاستجابة { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ
الآخِرَةَ } [القيامة : 20 ، 21] .
وعدم تحقق هذه الفضيلة في حياة كثير
من الناس ، سببه : ضعف في الخبرة ، أو ضعف في الإرادة ، أو فيهما معاً ،
والحكمة تجعل الحكيم في منأى عنهما .
وموقف الحكيم هنا يثير لدى الناس
الدهشة ؛ حيث يجدونه زاهداً معرضاً عما يتقاتلون عليه ، وربما اتهموه
بالعجز أو الكسل أو القصور ، وهو في الوقت نفسه يضحك في داخله من جهادهم في
غير عدو ومحاولات قبضهم على السراب ! ! .
ج-
داخل الحكيم ساحة مَوّارة بالحركة والنشاط ، فهو لا يكفّ أبداً عن عمليات
المقارنة ، والموازنة ، والتحليل ، والتركيب ، والاستنتاج ، والتشذيب ،
والإضافة ، إنها أمواج وتيارات في أعماق المحيط ، أما السطح فإنه هادئ
تعلوه السكينة والوقار .
إن من ملامح الأذكياء سرعة البديهة ، وإطلاق
الأحكام ، وسرعة تشكيل المواقف ، لكن الحكيم طراز آخر من الناس ، فهو بطيء
في تكوين معتقداته ، وصياغة مقولاته ، إذ إنه يملك قدرة خاصة على ضرب كل
أشكال المعرفة والخبرة في بعضها بعضاً ، ليخرج في النهاية بزبدة تتميز عنها
جميعاً ، لكنها منها جميعاً !
ويفسّر بعض الناس ذلك بالعي والحَصَر ،
لكن الأيام تثبت أن مقولات الحكماء هي بنات عواصف فكرية وشعورية هائلة ،
لكنها غير منظورة ! .
د -
من أهم تجليات الحكمة : إدراك حجوم القضايا على وجهها الصحيح ؛ فالحكيم
يرى الأشياء الكبيرة كبيرة ، كما يرى القضايا الصغيرة صغيرة كما هي ،
وتقدير القضايا بصورة صحيحة من أخطر المشكلات التي ظلت تواجه البشر على
مدار التاريخ ، وهل دُمّرت الحضارات إلا من وراء مشكلات وأخطاء ظنها الناس
تافهة ، فإذا هي عواصف هوجاء تأتي على كل ما تمرّ عليه ! .
الحكيم :
رجل يرى ما قبل اللحظة الراهنة ، ويستشرف ما بعدها ، وهو لا يرى نسقاً أو
نظاماً من التداعيات الترابطية ، لكنه يرى أنساقاً ونظماً تتوازى ، وتتقاطع
، وتتصادم ، إنه يحسّ بالعاصفة قبل هبوبها ، فيحذر قومه وينذرهم . كلنا
نرى القضايا بحجمها الحقيقي ، لكن بعد فوات الأوان ! ، وبعد أن نكتوي
بنارها ، وتفوتنا فرصها الذهبية ، لكن الحكيم يأتي في الوقت المناسب ، كما
قال سفيان الثوري : » إذا أدبرت الفتنة عرفها كل الناس ، وإذا أقبلت لم
يعرفها إلا العالم « ! .
العالم (الحكيم) الذي وصفناه ، أما أهـل
الاختصاص ، الذين أذهبوا العمر في تفتيق المعرفة حول شيء بالغ الصغر ، أو
حول (لا شيء) : فهؤلاء جنود التقدم العلمي ، لكن حظوظهم من إشراقات الحكماء
محدودة للغاية ! .
هـ - ترتفع درجة
المرارة في داخلنا على مقدار فقدنا للحكمة ؛ والنزق والبَرَم الذي نبديه
حول كل ما لا يعجبنا سببه جهلنا بالأسباب والجذور والسنن وطبائع الأشياء
ومنطق سيرورتها . أما الحكيم : فإن مرارته لا تنبع من مفاجآت الأحداث
وفواجعها ، وإنما من غفلة الناس واستخفافهم بالمواعظ التي ألقيت عليهم ،
ونبهتهم إلى النهايات المحتومة التي يندفعون إليها دون أي حساب أو تقدير
لفداحة الخطب الذي سيواجهونه . إن الآلام التي نشعر بها عند ظهور بعض
النتائج تكون مكافئة في العادة للمسرات التي عشناها يوم كانت (عقولنا
مستريحة) ومشاعرنا غارقة في عالم الملذات والأوهام ! .
ما ذكرناه من
أنوار الحكمة وفضائلها غيض من فيض ، ولا يشف عن محاسنها قول كقول الله
(تبارك وتعالى) : { وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً
كَثِيراً } [البقرة : 269] .
________________________
(1) الجامع لأحكام القرآن : ج3 ، ص330 .
(2) السابق : ج2 ، ص131 .
وقل ربِّ زدني علماً
قال تعالى
{ يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ }
ماهي الحكمة ؟
أ.د. عبدالكريم بكار
يقول الله (جل وعلا) : {
يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [البقرة : 269] .
وردت
كلمة (حكمة) في مواضع عديدة من الكتاب العزيز ، وذهب المفسرون إلى تفسير
معناها في كل موضع بحسب السياق الذي وردت فيه ، فتارة تُفسر بالسنة ، وتارة
بالموعظة ، وتارة بالقرآن ...
أما في هذا الموضع الذي نحن بصدده ، فإن
للعلماء في تفسيرها أقوالاً كثيرة ، منها : النبوة ، والفقه في القرآن ،
والمعرفة بدين الله ، والفقه فيه ، والاتباع له ، والخشية ، والورع [1] ...
وروى ابن وهب عن مالك أنه قال في (الحكمة) : إنها المعرفة بالدين ، والفقه في التأويل ، والفهم الذي هو سجية ، ونور من الله (تعالى) [2] .
ولعل
هذا القول هو أقرب الأقوال السابقة إلى الصواب . والذي يبدو لي : أن
الحكمة تتجاوز المعلومات الجزئية إلى المفاهيم الكلية مع نوع من التطابق
بين معارف الحكيم والمواقف العملية له ؛ ومن ثم قيل إن الحكمة تعني : وضع
الشيء في موضعه ؛ وإن كنا نرى أن ذلك أحد تجليات الحكمة ، وليس جزءاً منها ،
لكنهم لمحوا أن المواقف الصحيحة الملائمة هي التي تكشف عن حكمة الحكماء .
ولعلنا نحاول الحوم حول حمى الحكمة ، وحول بعض تجلياتها وتجسيداتها في المفردات التالية :
1-
إن تاريخ الإنسان هو مكافحة (العماء) و (اللاتكوّن) في داخل نفسه وفي
خارجها ؛ فهو يحاول أبداً صياغة المفهومات والرؤى التي تمكّنه من فهم مركزه
في هذا الكون ، ومعرفة المحيط الذي يعيش فيه بغية فهم الموقف الصحيح
والخطوة المناسبة .
ومهما بذل الإنسان من جهود في سبيل الوصول إلى ذلك
فإن نجاحه يظل نسبيّاً ، كما أن تقدير الناس لذلك النجاح سوف يظل متفاوتاً ؛
حيث إن مبادئ الإنسان ومعارفه تتحكم دائماً في بلورة رؤيته للأشياء ؛ ومن
ثم : فإن موقفاً ما قد يكون في نظر واحد منا حكيماً ، على حين ينظر إليه
آخرون على أنه طائش وخائب ؛ إلا أن الأيام بما تجلّيه من عواقب ونتائج وبما
تركمه من نماذج تساعدنا على نوع من توحيد الرؤية والفهم .
2-
إذا كنا نختلف حول تعريف الحكمة فإنه سيظل بالإمكان تحليلها إلى العناصر
المكوّنة لها ، وهي على ما يبدو لي ثلاثة : الذكاء ، والمعرفة ، والإرادة ؛
فالذكاء اللماح ، والمعرفة الواسعة ، والإرادة الصُلبة تكوّن معاً :
(الحكمة) ، وعلى مقدار كمال هذه العناصر يكون كمالها .
الذكاء بمفرده
لا يجعل الإنسان حكيماً ؛ إذ الملموس أن الذكاء دون قاعدة جيدة من العلم
والخبرة ينتج فروضاً ومعرفة (شكلية) ، كما أن المعرفة دون ذكاء تجعل
استفادة صاحبها منها محدودة ، وتجعل وظيفته مجرد الحفظ والنقل ، دون التمكن
من غربلة المعرفة أو الإضافة إليها . والأهم من هذا وذاك : أن المعرفة دون
ذكاء تؤخر ولادة الموقف الحكيم ، وتجعل الواحد منا يأتي بعد الحدث بسبب
ضعف البداهة .
ولا يكفي الذكاء اللمّاح ، ولا الخبرة الواسعة في جعل
الإنسان حكيماً ما لم يمتلك قوة الإرادة ؛ لأن الإرادة القوية وحدها هي
التي تجعلنا ننصاع لأمر الخبرة ، وهي التي تنتج سلوكاً يختفي فيه الفارق
بين النظرية والتطبيق .
الذكاء موهبة من الله (تبارك وتعالى) ،
والمعرفة الواسعة كسب شخصي ، والإرادة القوية هدية المجتمع الناجح لأبنائه
البررة ؛ فهو الذي يحدّد العتبة والسقف المطلوبين للعيش فيه بكرامة على
مستوى الإرادة ، وعلى مستوى القدرة ، وهو لا يمنح القدرة ، لكنه يمنح
أفراده إرادة الفعل والكف من خلال نماذجه الراقية ، ومن خلال المراتبية
الاجتماعية التي يصوغها تأسيساً على الاستجابة لأوامره .
3-
إن المعرفة مهما كانت واسعة لا تعدو أن تكون إحدى مكوّنات (الحكمة) ، ومن
ثم : فإن هناك فارقاً بين العالِم والحكيم ، فقد يكون المرء قمة في تخصص من
التخصصات ، لكنه لا يُعدّ حكيماً ، كما أن الحكيم قد لا يكون عالماً
متبحراً في أي علم من العلوم .
العلم يفكك المعرفة من أجل استيعابها ،
فيقوم بتنظيمها وتوزيعها على مساقات كثيرة ، أما الحكيم : فيقوم بتركيب
المعرفة النظرية مع الخبرة العملية من أجل بناء وتشكيل المفهومات العامة في
سبيل الوصول إلى رؤية شاملة تندغم فيها معطيات الماضي والحاضر والمستقبل .
العلم يمكننا من صنع الدواء ، وصنع السلاح ، لكن الحكمة تجعلنا نعرف متى نداوي ، ومتى نحارب .
العلماء
كثر ، والحكماء نادرون ؛ لأن تحليل المعرفة أسهل من تركيبها ، والعمل
الدعوي اليوم ليس فقيراً في الاختصاصيين ، لكنه محتاج حاجة ماسّة إلى
الحكماء العظام الذين يمزجون بين العلوم والثقافات المختلفة ، ويخلصون منها
إلى محكات نهائية في الإصلاح والنهضة ومداواة العلل المستعصية ...
إن
الحكمة أُم الوسائل والأساليب ، لكنها أكبر من أن تحصر في أي منهج من
المناهج ، إنها معرفة تتأبى على التنظيم ، فهي دائماً مرفرفة ، على حين أن
العلم معرفة منظّمة ، وكل العلوم يبدأ تفتحها على أنها حكمة ، وتنتهي إلى
أن تكون فنّاً ، أي : إنها تفقد طاقتها على التجدد بعد أن يتم سجنها في
قوالب جاهزة ، وتصبح بحاجة ماسّة إلى أن ترفرف من جديد ، أي : أن تطعّم
بالحكمة . ومن ثم : فإن الحكمة تتأبى على الاستنفاذ ، ولذا : فإنها الخير
الكثير الفياض المتجدد الذي يهيئه الله (تعالى) لمن شاء من عباده .
4-
جفل الوعي الإسلامي قديماً من (الفلسفة) ؛ لأن أكثر فلاسفة المسلمين
أخرجوا الفلسفة من إطار الوحي وإطار النصوص والمعطيات الشرعية العامة ،
فصارت المفاهيم الفلسفية غريبة عن البنية الثقافية الإسلامية ، بل مصادمة
لها .
وفي العصر الحديث : لم تنشأ لدينا مدارس فلسفية ، وإنما اتباع
لفلاسفة الغرب ، ومروّجون لفلسفة مادية أجنبية محورها الأساس : هدم عقيدة
الألوهية وتدعيم الإلحاد ... فاستمر الجفاء بين الاختصاصيين (العلماء) وبين
ذوي النظر الكلي والرؤية العامة .
إن الناظر في الآيات الكريمة التي
وردت فيها كلمة (الحكمة) : يجد أنها ما اقترنت بذكر (الكتاب) إلا كانت
تالية له ، وكأن في ذلك إشارة إلى أن الحكمة بما هي مفاهيم ونظر كلي لا يصح
أبداً أن تتشكل خارج مبادئ الكتاب ومعطياته الكبرى ؛ إنه القيّم والمهيمن
عليها ، وليس في ذلك حد من عطاء الحكمة وانطلاقها ، ولكنه إمساك بها كي لا
تفقد اتجاهها ومحورها ؛ فالعقل البشري على سعة إمكاناته لا يستطيع أن يعمل
بكفاءة إلا من خلال إطار توجيهي يمنحه شيئاً من الثوابت وصلابة اليقين .
وقد
آن الأوان لتنشيط حركة علمية لا تغرق في التخصصات لكنها تستفيد منها
جميعاً : في تنسيق الواقع في ضوء المثال ، وفي إدراك العلاقات الخطية
والجدلية التي تربط بين الأشياء ، وفي معرفة سنن الله (تعالى) في الخلق ...
آن الأوان لترك التقدم العلمي لأهل التخصصات يغوصون على مفردات العلوم
، ويضيفون إلى فروع المعرفة كل يوم جديداً ، والسعي إلى تكوين جيل جديد من
الحكماء والمصلحين ذوي النظر الكلي والثقافة المَزْجية ، الذين يستخدمون
المعارف المختلفة في بناء النماذج الحضارية الخاصة والمشروعات النهضية
الشاملة .
وفي اعتقادي أن الحاجة إلى (الحكماء) سوف تزداد ؛ إذ إن
المعرفة البشرية على وشك إكمال دورتها ، وعصر ثورة المعلومات الذي بزغ فجره
سوف يكون أقصر العصور الحضارية ، ثم يأتي زمان الأسئلة الكبرى : أسئلة
الهوية ، وعلل الوجود ، والمصير ، وطبيعة الكينونة البشرية وحدودها ،
وحقوقها .. أي : إن الفلسفة قد تستعيد مجدها القديم ، لكن ضمن معطيات
ومساقات جديدة ، وبلغة شديدة التعقيد ، وعلينا منذ الآن أن نحضّر أولئك ،
الذين يستطيعون فهم أسئلة العصر القادم ، ويحسنون الجواب عليها .
5-
الإرادة الصُلبة مكوّن أساس من مكونات ( الحكمة ) كما ذكرنا وهي (الإكسير)
الذي يحيل المعرفة النظرية إلى نماذج متحققة في الواقع المحسوس ، إن
الحكمة نور داخلي يشكل مفهومات كثيرة متباينة ، ويدمجها في نظم أشمل ،
فتبدو منسجمة متناسقة ، لكن الحكيم لا يبدو كذلك ، فهو طراز فريد ، ونموذج
خاص ، يصعب تقنين عطاءاته وتوجهاته ومواقفه ؛ لأن طبيعة الحكمة تتأبى على
التحقق الكامل ، ومن ثم : فإنها تلوح في بعض المواقف والسلوكات لتدل على
فضل الله (تعالى) على أصحابها وتوفيقه لهم . وتلك المواقف تفوق الحصر والعد
، لكن نذكر بعضها من أجل التقريب :
أ-
الحكمة نمو دائم ، فالمزج الفاعل بين الذكاء والخبرة والإرادة يجعل
مفهومات الحكيم في نوع من الحركة الدائبة ، مفهوم يكبر ، وآخر يضمر ، ونقط
تزداد تفصيلاً ، وأخرى تزداد تركيزاً ، أفكار جديدة لديه تفقد بريقها بسرعة
، وأفكار قديمة تنبعث حية لتخط خطّاً جديداً ...
هذه الوضعية تجعل
الحكيم في حالة من التألق الدائم ، وهذا التألق قد يفسّر لدى الكثيرين على
أنه تناقض واضطراب ، على حين أنه نوع من الاستجابة الناجحة للمرونة الذهنية
العالية ، والروافد الثقافية الثرية ، والإرادة الحرة الصُلبة ، لكن كل
ذلك يأخذ سمة التغيّر لا التبدّل .
ب-
إيثار الآجل على العاجل ، والدائم على الآني ، وما يمليه ذلك من مواقف
والتزامات : أكبر سمة من سمات (الحكيم) ، والشرائع السماوية كلها جاءت
توجّه الناس نحو هذه الفضيلة ، لكن إغراءات المنافع والملذات العاجلة صرفت
جلّ الناس عن الاستجابة { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ
الآخِرَةَ } [القيامة : 20 ، 21] .
وعدم تحقق هذه الفضيلة في حياة كثير
من الناس ، سببه : ضعف في الخبرة ، أو ضعف في الإرادة ، أو فيهما معاً ،
والحكمة تجعل الحكيم في منأى عنهما .
وموقف الحكيم هنا يثير لدى الناس
الدهشة ؛ حيث يجدونه زاهداً معرضاً عما يتقاتلون عليه ، وربما اتهموه
بالعجز أو الكسل أو القصور ، وهو في الوقت نفسه يضحك في داخله من جهادهم في
غير عدو ومحاولات قبضهم على السراب ! ! .
ج-
داخل الحكيم ساحة مَوّارة بالحركة والنشاط ، فهو لا يكفّ أبداً عن عمليات
المقارنة ، والموازنة ، والتحليل ، والتركيب ، والاستنتاج ، والتشذيب ،
والإضافة ، إنها أمواج وتيارات في أعماق المحيط ، أما السطح فإنه هادئ
تعلوه السكينة والوقار .
إن من ملامح الأذكياء سرعة البديهة ، وإطلاق
الأحكام ، وسرعة تشكيل المواقف ، لكن الحكيم طراز آخر من الناس ، فهو بطيء
في تكوين معتقداته ، وصياغة مقولاته ، إذ إنه يملك قدرة خاصة على ضرب كل
أشكال المعرفة والخبرة في بعضها بعضاً ، ليخرج في النهاية بزبدة تتميز عنها
جميعاً ، لكنها منها جميعاً !
ويفسّر بعض الناس ذلك بالعي والحَصَر ،
لكن الأيام تثبت أن مقولات الحكماء هي بنات عواصف فكرية وشعورية هائلة ،
لكنها غير منظورة ! .
د -
من أهم تجليات الحكمة : إدراك حجوم القضايا على وجهها الصحيح ؛ فالحكيم
يرى الأشياء الكبيرة كبيرة ، كما يرى القضايا الصغيرة صغيرة كما هي ،
وتقدير القضايا بصورة صحيحة من أخطر المشكلات التي ظلت تواجه البشر على
مدار التاريخ ، وهل دُمّرت الحضارات إلا من وراء مشكلات وأخطاء ظنها الناس
تافهة ، فإذا هي عواصف هوجاء تأتي على كل ما تمرّ عليه ! .
الحكيم :
رجل يرى ما قبل اللحظة الراهنة ، ويستشرف ما بعدها ، وهو لا يرى نسقاً أو
نظاماً من التداعيات الترابطية ، لكنه يرى أنساقاً ونظماً تتوازى ، وتتقاطع
، وتتصادم ، إنه يحسّ بالعاصفة قبل هبوبها ، فيحذر قومه وينذرهم . كلنا
نرى القضايا بحجمها الحقيقي ، لكن بعد فوات الأوان ! ، وبعد أن نكتوي
بنارها ، وتفوتنا فرصها الذهبية ، لكن الحكيم يأتي في الوقت المناسب ، كما
قال سفيان الثوري : » إذا أدبرت الفتنة عرفها كل الناس ، وإذا أقبلت لم
يعرفها إلا العالم « ! .
العالم (الحكيم) الذي وصفناه ، أما أهـل
الاختصاص ، الذين أذهبوا العمر في تفتيق المعرفة حول شيء بالغ الصغر ، أو
حول (لا شيء) : فهؤلاء جنود التقدم العلمي ، لكن حظوظهم من إشراقات الحكماء
محدودة للغاية ! .
هـ - ترتفع درجة
المرارة في داخلنا على مقدار فقدنا للحكمة ؛ والنزق والبَرَم الذي نبديه
حول كل ما لا يعجبنا سببه جهلنا بالأسباب والجذور والسنن وطبائع الأشياء
ومنطق سيرورتها . أما الحكيم : فإن مرارته لا تنبع من مفاجآت الأحداث
وفواجعها ، وإنما من غفلة الناس واستخفافهم بالمواعظ التي ألقيت عليهم ،
ونبهتهم إلى النهايات المحتومة التي يندفعون إليها دون أي حساب أو تقدير
لفداحة الخطب الذي سيواجهونه . إن الآلام التي نشعر بها عند ظهور بعض
النتائج تكون مكافئة في العادة للمسرات التي عشناها يوم كانت (عقولنا
مستريحة) ومشاعرنا غارقة في عالم الملذات والأوهام ! .
ما ذكرناه من
أنوار الحكمة وفضائلها غيض من فيض ، ولا يشف عن محاسنها قول كقول الله
(تبارك وتعالى) : { وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً
كَثِيراً } [البقرة : 269] .
________________________
(1) الجامع لأحكام القرآن : ج3 ، ص330 .
(2) السابق : ج2 ، ص131 .
وقل ربِّ زدني علماً
|
Admin- المدير العام
- تاريخ التسجيل : 19/04/2009
العمل/الترفيه : مهندس
الموقع : www.ahladalil.net
إنشاء حساب أو تسجيل الدخول لتستطيع الرد
تحتاج إلى أن يكون عضوا لتستطيع الرد.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى