في الثامنة والنصف، دخل رجل عجوز -يناهز الثمانين من العمر- لإزالة بعض الغرز من إبهامه،
 وكان يحدث الطبيب ويقول له: إنه في عجلة من أمره، فلديه موعد في الساعة التاسعة.
قدم الطبيب له كرسيا، وتحدث معه وهو يزيل الغرز:
ـ هل لديك موعد مع طبيب آخر؟
أجاب: لا، ولكني أذهب إلى دار الرعاية، لتناول الإفطار مع زوجتي!
ـ ولماذا دخلت زوجتك دار الرعاية؟
أجاب: هي هناك من سنوات، لأنها مصابة بالزهايمر!
إنتهى الطبيب من التغيير، ثم سأله:
ـ هل ستقلق زوجتك لو تأخرت قليلا عنها؟
أجاب الرجل: كلا، إنها لم تعد تعرف من أنا منذ خمس سنوات!
ـ إذن، لماذا أنت ذاهب إليها؟
إبتسم الشيخ وهو يضغط على يد الطبيب بقوة ويتمتم: هي لا تعرف من أنا.. لكن أنا أعرف من هي؟
إستعدت هذه القصة الجميلة من دفتر مذكراتي بعدما هاتفتني زوجة تتحدث عن خيانة زوجها في سنتها الأولى،
 وحادثني زوج لأشفع عند زوجته، بعدما إكتشفت علاقة غير حميدة له مع فتاة وهما في مطلع حياتهما الزوجية..!
حملتني قصص مؤلمة على أن أكتب كلمة -وفاء زوج- في قوقل بحثا عن الوجه الإيجابي في الحياة.
قرأت أحداثا جميلة وقصصا تستحق التخليد..
ـ شاب يصر على الزواج من حبيبته رغم بتر ساقها.. قلب خالد البريء يداهمه الحب وهو مراهق..
ـ وفاء زوج مصري.
ـ وفاء امرأة من البادية... إلخ.
ـ زوج أغمي عليه لمدة عامين، وحين صحا من إغمائه وجد زوجته تجلس إلى جواره..
قال لها: عندما وقع الحادث كنت معي؟
عندما نقلوني إلى المستشفى كنت معي؟
عندما أفلست الشركة كنت معي؟
عندما مات والدي كنت معي؟
تهز المسكينة رأسها بتأثر وحزن.. لتجده يقول بعد ذلك: أنت وجه نحس علي.. الفراق الفراق!
تبدو هذه القصة محزنة، وهي مصنوعة على الأرجح، ولكنها تحدث كثيرا بصورة أكثر بساطة.
 
الوفاء ليس محصورا في الأساطير، ولا في القصص النادرة التي تحكى، إنه سلوك لحظي، يحملنا على الإمتنان للناس الذين قضوا معنا جزءا طيبا من حياتنا، فنذكرهم بالخير، ونثني عليهم بما هم أهله، وننسى ما نظنه إساءة أو خطأ في حقنا، ونتذكر معهم
قول الله تعالى: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} [الأحقاف:16].
إنها القصص الصغيرة والمواقف العابرة التي يصح أن توصف بأنها ملحمة الوفاء!
الحياة الزوجية ليست شراكة إقتصادية تقوم على الكسب، ولا رفقة سفر عابر، هي إمتزاج روح بروح، الدم الدم، والهدم الهدم، مستقبل واحد، وأسرة واحدة، ويا لجمال التعبير القرآني حين يصف عقد الزواج بـ الميثاق الغليظ، والسياق يجعل الميثاق هنا لصالح المرأة، وأنها أخذته من الرجل {وأخذن منكم ميثاقا غليظا} [النساء:21].
وحين يعبر عن الزوجية بأنها سكن، ومودة، ورحمة هنا لم يذكر الجانب المادي البتة.
وحين يعبر عن الذرية بـ الأمشاج المختلطة من المرأة والرجل معا.
الوفاء خلق إنساني رفيع، ومعنى شريف، وعلاقة جميلة، لن تأتي حينما نقتصر على إنتظارها من الآخرين، أو حين نلومهم على التفريط فيها، بل حينما نرمي بسهمنا فيها، ونبدأ بصياغة حروفها الأولى، ليجد الشريك الآخر نفسه منساقا طوعا إلى مجازاة الجميل بالجميل، ومقابلة الحسنة بالحسنة، وكلما عرض عارض بقطع حبل الود إستدعى الوفاء ساعات الصفاء وتناسى الجفاء.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد *** جاءت محاسنه بألف شفيع
أو ردد ما تقوله الشاعرة لطيفة الحدانية المشهورة بالوفاء:
وإن تسألاني عن هواي فإنه *** مقيم بقلبي أيها الرجلان‏
وإني لأستحييه والترب بيننا *** كما كنت أستحييه حين يراني‏
صحبة الزوجين تعني رصيدا عاطفيا يكبر مع الزمن، تعني شجرة تمتد أغصانها وتبسق، وتضرب جذورها في أعماق التربة، وليست صلة مصلحية آنية تزول بمرور الزمن، ولا شجرة سريعة الذبول يجتثها صاحبها ليغرس بدلها غيرها دون تردد.
ترى أي نموذج يقبع في داخلك ويستحوذ على إعجابك؟
الأعرابي الذي طلق امرأته بعد خمسين سنة، فقالت له: تفعل هذا بعد طول العشرة؟
قال: والله ما لك عندي ذنب غيره!
أم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الذي ظل وفيا لخديجة آخر الدهر، حتى غارت منها عائشة
وقالت: أبدلك الله خيرا منها، فقال عليه السلام: «ما أبدلنى الله عز وجل خيرا منها..»
وكان يعدد فضائلها ويقول: «إنها كانت وكانت، وكان لى منها ولد».
الحياة الزوجية أخذ وعطاء، وإن شئت فهي تصالح وتسامح، وإن شئت فهي إعراض وإغماض، وإن شئت فهي تراحم وتلاحم.
على أن الحب هو الأساس المتين الذي تطيب معه النفوس، وتحلو به الحياة.
والحب ليس خيالا غامضا، ولا أمنيات طائرة، بل هو التدرج والخطوة خطوة، أو كما يقولون المحبة.. حبة حبة!
ومع أهميته القصوى فما كل البيوت تبنى على الحب كما قال عمر رضي الله عنه، بل الوفاء والمروءة والإسلام!
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة.