المواضيع الأخيرة
» Sondos
الأربعاء 28 أغسطس 2024, 07:35
» Sondos
الأربعاء 28 أغسطس 2024, 01:17
» Sondos
الثلاثاء 27 أغسطس 2024, 23:02
» Sondos
الثلاثاء 27 أغسطس 2024, 04:44
» Sondos
الثلاثاء 27 أغسطس 2024, 01:06
» Sondos
الإثنين 26 أغسطس 2024, 20:57
» Sondos
الأحد 25 أغسطس 2024, 23:20
» Sondos
الأحد 25 أغسطس 2024, 19:57
» Sondos
الثلاثاء 20 أغسطس 2024, 22:17
» Sondos
الإثنين 19 أغسطس 2024, 17:59
المواضيع الأكثر نشاطاً
سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم
سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم
سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم
قال الله عز وجل :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ
لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي
كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ
مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الواقعة: 75 – 80) ، فأدخل ﴿ لَا ﴾ النافية على
الفعل ﴿ أُقْسِمُ ﴾ ، والظاهر يقتضي أن يقال :﴿ فَأُقْسِمُ ﴾ ، بإسقاط (
لا ) ؛ كما قال تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾(الأنعام: 109) .. فما دلالة
﴿ لَا ﴾ هذه ، وما سر دخولها على فعل القسم ؟ وفي الإجابة عن ذلك نقول
بعون الله وتعليمه :
أولاً- اختلف أهل التأويل في قوله :﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ
﴾ : أقسم هو أو غير قسم ، على قولين . والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله
عز وجل ، يقسم بما شاء من خلقه ، وهو دليل على عظمته . ثم اختلفوا في
تأويله على أقوال :
القول الأول : أن ( لا ) هاهنا زائدة ، أو : صلة ، وتقدير الكلام فأقسم بمواقع النجوم ) ، رواه
ابن جرير الطبري عن سعيد بن جُبَيْر . وعليه جمهور البصريين والكوفيين ،
وعلل البصريون لزيادتها بأنها زيدت لتوكيد القسم . والدليل عليه قراءة
الحسن وحميد وعيسى بن عمر فلأقسم ) ، بغير ألف بعد
اللام . قال الزركشي في البرهان : وهي قراءة قويمة لا يضعفها عدم نون
التوكيد مع اللام ؛ لأن المراد بـ( أقسم ) فعل الحال ، ولا تلزم النون مع
اللام . ومن منع منهم دخول لام التوكيد على فعل الحال خرج هذه القراءة على
أن المراد فلأنا أقسم ) ، فقدر
مبتدأ محذوفًا بين اللام ، وفعل القسم .
القول الثاني : أنها ليست بزائدة لا معنى لها ؛ بل يؤتى بها في أول القسم ،
إذا كان مقسمًا به على منفي ؛ كقول عائشة رضي الله عنها :« لا ، والله ما
مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط » ، وهكذا هاهنا تقدير
الكلام فلا . أي : فليس الأمر
كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة ، أو شعر ) ، ثم استؤنف القسم ،
فقيل أقسم بمواقع النجوم ) . رواه
الطبري عن بعض أهل العربية ، ورواه القرطبي عن الفراء ، ثم قال :« وقد يقول
الرجل لا ، والله ما كان كذا
) ، فلا يريد به نفي اليمين ؛ بل يريد به نفي كلام تقدم . أي : ليس الأمر ،
كما ذكرت ، بل هو كذا » .
فـ( لا )- على هذا- نافية لما حكي عن المشركين من إنكارهم البعث . قالوا :
وإنما صح ذلك ؛ لأن القرآن كله يجري مجرى السورة الواحدة ، فيجوز أن يكون
الادعاء في سورة ، والرد عليهم في أخرى . قال أبو حيان :« لا يجوز ؛ لأن في
ذلك حذف اسم ( لا ) ، وخبرها ، وليس جوابًا لسائل سأل ، فيحتمل ذلك » .
أما الزركشي فقال :« وهذا أولى من دعوى الزيادة ؛ لأنها تقتضي الإلغاء .
وكونها صدر الكلام يقتضي الاعتناء بها ، وهما متنافيان » .
القول الثالث : أنها نافية للقسم ، على أن ( أقسم ) إخبار لا إنشاء .
واختاره الزمخشري في الكشاف . قال :« والمعنى في ذلك : أنه لا يقسم بالشيء
إلا إعظامًا له بدليل :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ ؛ فكأنه قيل : إن إعظامه
بالإقسام به ، كلا إعظام . أي : إنه يستحق إعظامًا فوق ذلك » .
القول الرابع والخامس : قال القرطبي :« وقيل : ( لا ) بمعنى : ( ألا ) ،
للتنبيه .. ونبَّه بهذا على فضيلة القرآن ؛ ليتدبروه ، وأنه ليس بشعر ولا
سحر ولا كهانة ، كما زعموا » . وقال الزركشي في البرهان :« وأجاز الخارزجي
في ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ كون ( لا ) فيه بمعنى الاستثناء
، فحذفت الهمزة ، وبقيت ( لا ) » . فعلى الأول يكون أصلها ألا ) ، بفتح الهمزة ، وعلى
الثاني يكون أصلها إلا ) ، بكسر الهمزة .
القول السادس : قال أبو حيان في البحر :« والأولى عندي أنها لام أشبعت
حركتها ، فتولدت منها ألف ؛ كقوله : أعوذ بالله من العَقْرَاب » . فعلى هذا
يكون أصلها : ( فلأقسم )- كما في قراءة من قرأ ذلك- ثم أصبحت ( لا ) بعد
إشباع فتحة اللام ؛ كما أشبعت فتحة الراء ألفًا في ( العقرب ) ، فأصبح :
العقراب .
ثانيًا- هذه هي أشهر الأقوال في تأويل ﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ ، والمعتمد منها
عند جمهور المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين هو القول الأول الذي ينصُّ على
أنه قسم صريح ، وأن ( لا ) فيه مزيدة لتوكيد القسم ، والتقدير فأقسم ) . والدليل عليه قراءة
فلأقسم ) ، بغير ألف بعد
اللام ، واحتج القائلون به بأن الله تعالى سمَّاه قسمًا في قوله معترضًا
بين القسم وجوابه :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ .
وأورد الزركشي في البرهان قصة طريفة حكاها عن الخطابي ، فقال :« قال
الخطابي : سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج ، قال : سأل رجل
بعض العلماء عن قوله :﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾(البلد: 1) ،
فأخبر أنه لا يقسم به ، ثم أقسم به في قوله :﴿ وَهَذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ ﴾(التين: 3) ، فقال : أي الأمرين أحب إليك : أجيبك ثم أقطعك ؟
أو أقطعك ثم أجيبك ؟ فقال : بل اقطعني ، ثم أجبني ، فقال له : اعلم أن هذا
القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة رجال وبين ظهراني قوم ،
وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيهم غمزًا وعليه مطعنًا . فلو كان هذا
عندهم مناقضة ، لتعلقوا به ، وأسرعوا بالرد عليه ؛ ولكن القوم علموا وجهلت ،
ولم ينكروا منه ما أنكرت . ثم قال له : إن العرب قد تدخل ( لا ) في كلامها
، وتلغي معناها ، وأنشد فيه أبياتًا » .
وقد أصاب هذا العالم في قوله موجهًا كلامه إلى السائل :« ولكن القوم علموا
وجهلت ، ولم ينكروا منه ما أنكرت » ؛ ولكنه بعد عن الصواب ؛ بل جانب الصواب
حين زعم :« أن العرب قد تدخل ( لا ) في كلامها ، وتلغي معناها » ، وهو زعم
باطل ، لما فيه من افتراء على العرب ، وبالتالي على كلام الباري عز وجل
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكيف يقال فيه مثل هذا
الكلام ؟ فكلام الباري عز وجل لا يوجد فيه لفظ ، إلا وله معنى . وإن كان قد
خفي معناه على الكثيرين ، فهذا لا يعني أن الله سبحانه أدخله في كلامه
وألغى معناه ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا .
ولو كان الأمر كما قال هذا العالم وغيره ، لما اختلفوا في ( لا ) هذه على
الأقوال التي ذكرناها ، حتى القائلون بزيادتها اختلفوا فيها . حكى الزركشي
في البرهان عن ابن الشجري أنه قال :« وليست ( لا ) في قوله :﴿ فَلَا
أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ ، وقوله :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ
الْمَشَارِقِ ﴾(المعارج: 40) ونحوه ، بمنزلتها في قوله :﴿ لَا أُقْسِمُ
بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾(القيامة: 1)- كما زعم بعضهم- لأنها ليست في أول
السورة ، لمجيئها بعد الفاء ، والفاء عاطفة كلمة على كلمة تخرجها عن كونها
بمنزلتها في :﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾(القيامة: 1) » . وهذا
يعني : أن ( لا ) في :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ زائدة ، لوقوعها بين الفاء
العاطفة والفعل ، وأما في :﴿ لَا أُقْسِمُ ﴾ فالقول بزيادتها ضعيف ؛ لأن
الزيادة ، لا تأتي في صدر الكلام .
وذهب بعض القائلين بزيادتها في ( آية القيامة ) ، ونحوها مما أتى فيها
المقسم عليه منفيًّا- إلى أن فائدتها مع التوكيد التوطئة . أي : التمهيد
لنفي الجواب ، وقدروه بقولهم : لا أقسم بيوم القيامة ، لا يتركون سدى .
ورده بعضهم الآخر بقوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ *
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾(البلد: 1- 3)
؛ فإن جوابه مثبت ، وهو قوله تعالى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي
كَبَدٍ ﴾(البلد: 4) .. وهكذا تجدهم يشرقون ويغربون ، وفي خضم تأويلاتهم
المتكلفة يَغرَقون ، ويُغرِقون غيرهم معهم ، لا لسبب إلا لأنهم لم يدركوا
المراد من إدخال ( لا ) على فعل القسم .
ثالثًا- نعود بعد هذا إلى الإجابة عن هذه المسألة الخلافية التي مازال أهل
العلم فيها يختلفون ولا يزالون ، فنقول بعون الله وتعليمه :
القسم أسلوب من أساليب الكلام ، الغرض منه تأكيد الخبر لدى المخاطب ، وهو
أسلوب شائع الاستعمال في كلام العرب ، وكلام الله عز وجل ، ولا يكون إلا
باسم الله ، إذا كان المقسِم هو العبد ، وفي حديث ابن عمرَ أنه أتاه رجل ،
فقال : يا أبا عبد الرحمن ! أَعليَّ جُناحٌ أن أحلِف بالكعبة ؟ قال : ولِمَ
تحلِفُ بالكعبة ؟ إذا حلفت بالكعبة ، فاحلِفْ بربِّ الكعبة ، فإن عمرَ كان
إذا حلَف ، قال :« كلَّا ، وأبي » ، فحلَف بها يومًا عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لا تحلِفْ بأبيك ،
ولا بغير الله ؛ فإنه مَنْ حلَف بغير الله ، فقد أشرك » . هذا ، وقد أخبر
الله تعالى عن المشركين ، فقال سبحانه :﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ
لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
﴾(التوبة: 56) ، وقال :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾(الأنعام: 109) .
وأما الله عز وجل فيقسم بنفسه المقدسة ، ويقسم بما شاء من مخلوقاته تعظيمًا
لها . ولقائل أن يقول : ما معنى القسم من الله سبحانه ؛ فإنه إن كان لأجل
المؤمن فالمؤمن يصدق مجرد الأخبار ، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده القسم
شيئًا ؟ قال أبو القاسم القشيري :« فالجواب : أن الله ذكر القسم لكمال
الحجة وتأكيدها ؛ وذلك أن الحُكْمَ يُفصَلُ باثنين : إما بالشهادة . وإما
بالقسم ، فذكر تعالى النوعين ، حتى لا يبقى للناس على الله سبحانه من حجة »
. ومن هنا قالوا : إن الشهادة قد تجري في بعض المواضع مجرى القسم ؛ كقول
القائل أشهد بالله إنك لصادق )
. أي : أقسم بالله . ومنهم من يقول : إن قال أشهد ) ، ولم يقل بالله ) ، يكون قسمًا أيضًا ،
والدليل عليه قوله تعالى :﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا
نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ﴾(المنافقون:1) . فقولهم :﴿ نَشْهَدُ ﴾
يجري مجرى القسم ؛ ولذلك تُلُقِّيََ بما يُتلقَّى به القسم بقولهم :﴿
إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ﴾ . ثم قال تعالى معقِّبًا عليه :﴿ اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾(المنافقون: 2) ،
فسَمَّى قولهم ذلك يمينًا .
إذا عرفت هذا ، فاعلم أن القسم في القرآن ينقسم ، بحسب المقسَم عليه ،
وبحسب الحاجة إليه إلى قسمين :
القسم الأول : قَسَمٌ مثبت ، وهو الذي يكون فيه المقسَم عليه من الأمور
التي تكون مَظنةً للشك من قبل المخاطب . وأمثلته في القرآن كثيرة ؛ منها
قوله تعالى :
﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾(يونس: 53) .
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى
وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾(سبأ: 3) .
﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ﴾ (التغابن: 7) .
﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾(النجم:
1- 2) .
﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
﴾(التين: 1) ، ونحو ذلك كثير .
فالمقسَم عليه في هذه الآيات كلها هو من الأمور التي تكون مَظنَّةً للشك من
قبل المخاطب ، فيأتي القسم بما أقسم به عليه ، لتأكيده وتثبيته في ذهن
المخاطبين ؛ لأن المخاطب بين مصدِّق به ومكذِّب ، فيأتي القسم عليه ، دفعًا
لمظنة اتهام ، أو إزاحة لشك . تأمل قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ
أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾(يونس: 53) ، كيف حكى
استِنْباء الكافرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن كان الوعيد بالعذاب
الذي توعدهم الله تعالى به في الآخرة حقًّا ! فهم مزلزلون من الداخل تجاه
هذا اليوم- أعني : يوم البعث وما يصحبه من أهوال- يريدون أن يستوثقوا ،
وليس بهم ذرَّة من يقين ، فيأتي الجواب من الله عز وجل بالإيجاب حاسمًا ،
مؤكَّدًا بهذا القسم :﴿ قُلْ إِي وَرَبِّي ﴾ . أيْ : نعم ! وربي الذي أعرف
قيمة ربوبيته ، فلا أقسم به حانثًا ، ولا أقسم به إلا في جد وفي يقين :﴿
إِنَّهُ لَحَقٌّ ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ ! ومثل ذلك يقال في
بقيَّة الآيات .
والقسم الثاني : قسَم مسبوق بـ( لا ) النافية ، وهو نوعان :
أولهما : نوع يختص المُقسِم فيه بالعبد ؛ ومثاله : أن يقال لزيد من الناس :
أَقسمْ بالله على أن فلانًا هو قاتل ، فيقول لا أقسم ) ؛ إما لخوفه من بطش
القاتل ، أو لخوفه عليه من أن يصاب بمكروه ، أو لخشيته من سوء عاقبة الكذب
في القسم . فـ( لا ) في هذه الحالة هي النافية للقسم. و( أقسم ) فعل منفي
بها . وهذا واضح : تقول أقسم ) ، و( لا أقسم ) ،
والأول مثبت ، والثاني منفي .. وقد يكون الأمر المطلوب القسم عليه من
الأمور التي لا تحتاج إلى القسم ؛ لأنه واضح الثبوت ، فحينئذ تكون ( لا )
في نحو قولك لا أقسم ) لنفي الحاجة
إلى القسم ، خلافًا لمن زعم زيادتها في الموضعين ؛ إذ لو كانت مزيدة ، لما
عرف النفي من الإثبات ، ولما مُيِّز بين الحاجة إلى القسم ، وعدم الحاجة
إليه .
وثانيهما : يختص المقسِم فيه بالله عز وجل ؛ ومنه ما وقع في القرآن الكريم
من أقسام مسبوقة بـ( لا ) ؛ كما في قوله تعالى :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ﴾( الواقعة : 75- 77 ) .
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ
* عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ﴾(المعارج: 40- 41) .
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ
لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾(الحاقة: 38- 40) .
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ
اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ
﴾(القيامة: 1- 3) .
﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ *
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ
﴾(البلد: 1- 4) .
فهذا ليس بقسم صريح ، ولا قسم منفيٍّ ؛ وإنما هو تلويح بالقسم ، و( لا )
فيه على أصلها الذي وضعت له من الدلالة على النفي ، وأدخلت على الفعل (
أقسم ) لسر بديع من أسرار القرآن ، وهو نفي الحاجة إلى القسم على أمور
يقينية ثابتة ، لا يتطرق إليها الشك أبدًا ؛ كالقرآن الكريم في آية الواقعة
، وقدرة الله تعالى على تبديل الكافرين بخير منهم في آية المعارج ،
والقرآن على أنه قول رسول كريم في آية الحاقة ، وخلق الله تعالى الإنسان في
نصَب وشدة . فهذه الأمور اليقينية الثابتة لا تحتاج إلى أن تؤكد بالقسم ،
فضلاً عن أن المتكلِم هو الله جل وعلا ، شاء من شاء ، وأبى من أبى .
تأمل قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ﴾(الواقعة: 77- 80) ، تجد فيه أن ( كون القرآن كريمًا موجود
في كتاب مصون ، لا يمسُّه إلا الملائكة المطهَّرون ، وأنه تنزيل من رب
العالمين ) حقيقةٌ ثابتةٌ لا تحتاج إلى قسم يؤكِّدها ؛ لأنها أوضح من أن
تؤكَّد بقسم .
وقد كان المشركون يزعمون أن القرآن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم هو
قول كاهن ، وقول مجنون ، وأنه مفترى على الله سبحانه من أساطير الأولين ،
وأنه متقوَّل على الله جل وعلا ، تنزَّلت به الشياطين عليه ، إلى آخر ذلك
من الأقاويل الباطلة ، فجاء الجواب من الله تعالى حاسمًا بأنه ليس كما
يزعمون ويدَّعون ويفترون ؛ وإنما هو نسخة من القرآن الكريم الموجود في
الكتاب المكنون ، والذي لا يمسه إلا الملائكة المطهَّرون ، وأنه تنزيل من
رب العالمين ، لا تنزيل من الشياطين . وهذا ما قرره سبحانه وتعالى في آية
آيات أخرَ ؛ كقوله :﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا
يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ
لَمَعْزُولُونَ ﴾(الشعراء: 210- 212) .
وقد مهَّد الله تعالى لهذا الجواب بقوله :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ
النُّجُومِ ﴾ ، ﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ ملوِّحًا
بالقسم بمواقع النجوم التي أخبر عن عظمة القسم بها . قال سيد قطب :« وهذا
التلويح بالقسم والعدول عنه أسلوب ذو تأثير في تقرير الحقيقة التي لا تحتاج
إلى القسم ؛ لأنها ثابتة واضحة » ؛ وكأنه سبحانه يقول : لست بحاجة إلى
القسم بمواقع النجوم- على عظمتها- أن هذا القرآن كريمٌ ؛ لأن كونه كريمًا ،
في ذاته وفي مصدره ، من الحقائق الثابتة التي لا يتطرق إليها الشك أبدًا ،
وبالتالي فهو لا يحتاج إلى قسم يؤكده ؛ لأنه أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى
قسم .
ثم تأمل قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا
تُبْصِرُونَ ﴾(الحاقة: 38- 43) ، نجد كيف نفى سبحانه حاجته إلى القسم بما
نبصر وما لا نبصر ، على قوله سبحانه :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ
كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
. وتعقيبًا على هذه الآيات قال سيد قطب رحمه الله :« إن الأمر لا يحتاج
إلى قسم ، وهو واضح هذا الوضوح ، ثابت هذا الثبوت ، واقع هذا الوقوع . لا
يحتاج إلى قسم أنه حق ، صادر عن الحق ، وليس شعر شاعر ، ولا كهانة كاهن ،
ولا افتراه مفتر . لا ، فما هو بحاجة إلى توكيد بيمين » .
ثم تأمل قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا
أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾(القيامة: 1- 2) تجد كيف بدأ الله
سبحانه السورة ملوحًا بالقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوَّامة ، على أن
البعث حقٌّ لا ريب فيه ، وهو ما دل عليه قوله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ
الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ﴾(القيامة: 3) .
ثم تأمل قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ
بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾(البلد: 1- 4) ، كيف بدأ الله
سبحانه السورة بالتلويح بهذا القسم العظيم ، على حقيقة هي في حياة الإنسان
ثابتة ، لا يتطرق إليها الشك أبدًا ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي
كَبَدٍ ﴾ .
فالمقام- إذًا- لا يحتاج إلى قسم وتوكيد بيمين ، فضلاً عن أن المتكلم هو
الله جل وعلا ؛ ولهذا لمَّا سمع أعرابيٌ قول الله تعالى :﴿ وَفِي
السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾(الذاريات:
22- 23) ، صاح قائلاً :« يا سبحان الله ! من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ؟
لم يصدقوه بقوله ، حتى ألجئوه إلى اليمين » . فتأمل قول هذا الأعرابي الذي
أدرك بفطرته السليمة أن الأمر لا يحتاج إلى القسم على صحة وقوعه ؛ لأنه
أظهر وأوضح من أن يُقسَم عليه ، مع أن المقسم عليه في هذه الآيات من الأمور
التي هي موضع شك من المخاطبين !
رابعًا- وأما عن تسمية قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ قسمًا في قوله تعالى
:﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ فالجواب عنه : أن قوله
تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ لا يدل على أن ﴿
فَلَا أُقْسِمُ ﴾ قسم- كما يوحي بذلك ظاهر اللفظ- وإنما يدل على أن مواقع
النجوم شيء عظيم يستحق أن يقسم به المقسمون ، لو كانوا يعلمون عظمتها . ولو
أن الله جل وعلا كان بحاجة إلى القسم على أن هذا القرآن كريم ، لأقسم بها ؛
ولكنه سبحانه ليس بحاجة إلى هذا القسم . فثبت أن قوله تعالى :﴿ فَلَا
أُقْسِمُ ﴾ ليس بقسم ؛ وإنما هو تلويح بالقسم ، وأنه بمنزلة القسم الصريح .
ولتوضيح ذلك نقول :
إن قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ يحتمل أن يفهم
منه المخاطب أن الله سبحانه لم يقسم بمواقع النجوم ، لتفاهتها وحقارتها- في
نظره- أو لقلة شأنها ، فجاء قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ معترضًا بين التلويح بالقسم والمقسَم عليه ، صَوْنًا
للمعنى من هذا الاحتمال . ويؤكد ذلك أن المخاطبين بهذه الآيات لم يكونوا
يعلمون وقت نزول القرآن عن مواقع النجوم إلا القليل القليلَ الذي يدركونه
بعيونهم المجردة ؛ ولهذا لم يقل سبحانه :﴿ كَمَا تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ لأنه لو
قيل ذلك ، لأفاد علمهم بعظمة هذا القسم . وكذلك لو قيل :﴿ إِنْ تَعْلَمُونَ
﴾ ، لأفاد إمكان علمهم بذلك ، ومن ثمَّ جاء التعبير بقوله تعالى :﴿ لَوْ
تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ ليفيد نفْيَ علمهم بعظمة هذا القسم ، مع تمني حصوله .
ويبيِّن لك ذلك أن الأصل في ﴿ لَوْ ﴾ أنها أداة تَمنٍّ ، ثم استعملت كأداة
للشرط ؛ وذلك من باب تعدُّد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد . ومن خواصِّها
فرْضُ ما ليس بواقع واقعًا ، وتستعمل فيما لا يُتَوقَّع حدوثُه ، وفيما
يمتنع حدوثه ، أو فيما هو محال ، أو من قبيل المحال .
ولو سلمنا جدلاً أن قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾
قسم- كما يقولون ، بدليل أن الله تعالى سماه قسمًا ، فكيف يقسم ربنا جل
وعلا على قرآن أعلن هو نفسه سبحانه عجز الإنس والجن على الإتيان بمثله ،
ولو اجتمعوا على ذلك وتظاهروا ؛ وذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا
الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيرًا ﴾(الإسراء: 88) ؟ ألا ترى أن في القسم عليه وضعه موضع المشكوك فيه
؟ وممَّن ؟ من الله تعالى قائل هذا القرآن الكريم . والشك في القرآن هو شك
في قائله ، تعالى القرآن وقائله عز وجل عن ذلك ، وعلا علوًّا كبيرًا .
ومن يعرف هذا ، يدرك خطورة القول بأن قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ ﴾ قسم ،
و إن ( لا ) فيه مزيدة للتوكيد . ومن أصرَّ على القول بذلك بعد هذا البيان
المفصل ، فإنه ملحد بآيات الله جل وعلا ، علم أو لم يعلم ، فليتنبه إلى
ذلك من يفسر القرآن ، وليكن على حذر من أمره . فالله جل شأنه عندما يقول :﴿
لَا أُقْسِمُ ﴾ فهذا لا يعني إلا شيئًا واحدًا فقط ، وهو أنه تعالى ليس
بحاجة إلى أن يقسم بشيء من مخلوقاته- مهما عظم ذلك الشيء- على أن المقسَم
عليه حقٌّ لا ريب فيه ؛ لأن كونه حقًّا لا يحتاج إلى يمين يؤكد حقِّيَّتَه
وثبوته .
والفرق واضح كل الوضوح بين أن يقول الله عز وجل أقسمُ ) ، وأن يقول لا أقسمُ ) ؛ فالأول يجعل
المقسم عليه أمرًا مشكوكًا في حقِّيَّته وثبوته عند المخاطب ، بخلاف الثاني
. وإذا علمنا الفرق بين القولين ، أدركنا سرَّ دخول ﴿ لَا ﴾ النافية على
فعل القسم الذي يكون فيه ضمير الفعل عائدًا على الله جل وعلا ، ويكون
المقسَم عليه من الأمور اليقينيَّة الثابتة .
وبهذا يظهر لنا الفرق بين القسم المثبت ، والقسم المسبوق بـ﴿ لَا ﴾ النافية
، كما يظهر لنا أن القول بزيادة ﴿ لَا ﴾ هو قول بعيد جدًّا ؛ بل هو في
بعده عن الصواب أبعد من النجوم في مواقعها من الأرض ؛ إذ يستحيل أن يؤكَّد
الشيء بنفيه ، ولا يمكن لأعجمي ، فضلاً عن عربي ، أن يتصور أن ﴿ لَا
أُقْسِمُ ﴾ معناه :﴿ أُقْسِمُ ﴾ ! وكيف ينسب ذلك إلى القرآن الكريم ، وهو
كتاب بيان ، وهدى للناس !
وأما القول بأن ﴿ لَا ﴾ نافية للقسم فهو أبعد من القول بزيادتها ؛ وذلك لما
بين نفي الحاجة إلى القسم ، وبين نفي القسم من فرق كبير . وفي بيان هذا
الفرق قالت الدكتورة عائشة عبد الرحمن :« وفرق بعيد أقصى البعد بين أن تكون
﴿ لَا ﴾ لنفي القسم كما قال بعضهم ، وبين أن تكون لنفي الحاجة إلى القسم
كما يهدي إليه البيان القرآني » .
وأضافت قائلة :« ومن نفي الحاجة إلى القسم يأتي التأكيد والتقرير؛ لأنه
يجعل المقام في غنًى بالثقة واليقين عن الإقسام ، والسر البياني لهذا
الأسلوب يعتمد في قوة اللفت- على ما يبدو- بين النفي ، والقسم من مفارقة
مثيرة لأقصى الانتباه . وما زلنا بسليقتنا اللغوية نؤكد الثقة بنفي الحاجة
معها إلى القسم ، فنقول لمن نثق فيه : لا تقسم . أو : من غير يمين ، مقررين
بذلك أنه موضع ثقتنا ، فليس بحاجة إلى أن يقسم لنا » .
وقد يأتي النهي عن القسم من المتكلم لعلمه بأن المقسِم كاذب في قسمه ؛ ونحو
ذلك قوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ
أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ﴾ ؛ ولهذا أمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله
عليه وسلم أن ينهاهم عن هذا القسم ، لعلمه سبحانه بنفاقهم ، فقال جل شأنه
:﴿ قُلْ لَا تُقْسِمُوا ﴾(النور: 53) .
نخلص من ذلك كله إلى أن قوله تعالى ﴿ أُقْسِمُ ﴾ قسم مباشر . وأما قوله ﴿
لَا أُقْسِمُ ﴾ فهو تلويح بالقسم وعدول عنه ؛ لعدم الحاجة إليه ، خلافًا
للأول . وهذا التلويح بالقسم مع العدول عنه- كما قال سيد قطب رحمه الله-
أوقع في الحس والنفس من القسم المباشر ، وهو أسلوب ذو تأثير في تقرير
الحقيقة التي لا تحتاج إلى القسم ؛ لأنها ثابتة واضحة . فإذا كان كذلك ،
فهو في قوة القسم من حيث إفادته معنى التوكيد والتقرير والتأثير .
وأما ما ذهب إليه بعضهم من أن ﴿ لَا ﴾ هذه نفيٌ لكلام تقدم ذكره فمدفوع
بإجماع القرَّاء على أن ﴿ لَا ﴾ موصولة بالفعل ﴿ أُقْسِمُ ﴾ . وجعلها ردًّا
لكلام سبق ، يقتضي القراءة على وجوب الفصل بينها ، وبين الفعل ، فضلاً عما
يبدو فيه من غرابة . ولو كانت ( لا ) نفيًا لكلام سابق ، لوجب الفصل
بينهما بـ( واو ) القسم ، ولوجب أيضًا أن يكون جواب القسم منفيًّا ، يدلك
على ذلك قول الله تعالى :﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾(النساء: 65) ، ونحو ذلك قول عائشة
رضي الله عنها :« لا ، والله ، ما مسَّت يدُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم يدَ امرأة قطُّ » .
وأما ما ذهب إليه بعضهم من أن ﴿ لَا ﴾ هذه أداة تنبيه ، وأن أصلها أَلَا ) فهو قول غريب عجيب ،
ولا يقل عنه غرابة وعجبًا قول من زعم أنها أداة استثناء ، وأن أصلها إلا ) ، ثم حذفت همزتها ،
وأغرب منهما وأعجب قول من قال : إنها لام أُشبِعت حركتها ، فتولَّدت عنها
ألفٌ . والأعجب من ذلك كله أن يتبنَّى هذا القول عالم جليل كأبي حيان
الأندلسي ، على أنه أولى الأقوال عنده بالصواب .
خامسًا- بقي أن تعلم أن الدكتور فاضل السامرَّائي ، وهو أشهر من أن يعرَّف
به ، كان قد أجاب في كتابه الغنيِّ عن التعريف ( لمسات بيانية في نصوص من
التنزيل ) عن السؤال الآتي : ما دلالة ( لا ) في القسم ، في قوله تعالى في
سورة البلد :﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾(البلد: 1) ؟ فقال ما نصُّه
:« اختلف النحاة في دلالة ( لا ) : كلام عام من ( لا أقسم ) عمومًا ،
يقولون لا ) زائدة لتوكيد
القسم بمعنى : أقسم ؛ مثال : قولنا : والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل .
ولو قلنا : لا والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل . لا يختلف المعنى ،
والقسم دلالة واحدة .. وقسم يقولون : هي للنفي . أي : نفي القسم . والغرض
منه أن الأمر لا يحتاج للقسم لوضوحه ، فلا داعي للقسم . وقسم قال : إنها
تنفي لغرض الاهتمام ؛ كأن تقول : لا أوصيك بفلان ، بمعنى : لا أحتاج لأن
أوصيك . وفي السورة ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ) تدور ( لا ) في كل
هذه الأمور ، على أنها توكيد للقسم ، بمعنى أقسم بهذا البلد ) . إذن
الغرض للتوكيد ؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام » .
هذا ما قاله فضيلته بنصِّه ، وهو مدوَّن في كتاب ، وليس جوابًا مرتجلاً على
الهواء ، ولا يخفى على العامَّة ما في ذلك من قلق واضطراب ، وهو كلام
يحتاج من القارىء إلى كثير من التدبر والتأمل ؛ كي يستطيع استيعابه وفهمه ؛
لأنه أشبه بالألغاز ، وإلا فكيف يمكن أن يفهم قوله :« والله لا أفعل ،
معناها : لا أفعل . ولو قلنا : لا والله لا أفعل ، معناها : لا أفعل . لا
يختلف المعنى ، والقسم دلالة واحدة » ؟ أو كيف يمكن أن يفهم قوله :« وفي
السورة ( لا أقسم بهذا البلد ) تدور ( لا ) في كل هذه الأمور ، على أنها
توكيد للقسم ، بمعنى أقسم بهذا البلد ) . إذن
الغرض للتوكيد ؛ لأن الأمر فيه عناية واهتمام » ؟
ومثل هذا الاضطراب والخلط نجده عند ابن عاشور ؛ وذلك عند تفسيره لآية
الواقعة :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ (الواقعة: 75) ، حيث
قال :« و( لا أقسم ) بمعنى أقسم ) ، و ( لا ) مزيدة
للتوكيد ، وأصلها : نافية تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به
، خشية سوء عاقبة الكذب في القسم ، وبمعنى : أنه غير محتاج إلى القسم ؛
لأن الأمر واضح الثبوت . ثم كثر هذا الاستعمال ، فصار مرادًا تأكيد الخبر ،
فساوى القسم ، بدليل قوله عقبه :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ
عَظِيمٌ ﴾(الواقعة: 76) » .
ثم قال عند تفسير قوله تعالى :﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ من سورة
البلد ، قال « و( لا أقسم ) صيغة تحقيق قَسَم ، وأصلها : أنها امتناع من
القسَم امتناع تحرُّج ، من أن يحلف بالمُقْسمِ به ، خشية الحنث ، فشاع
استعمال ذلك في كل قَسَم يراد تحقيقه ، واعتبر حرف ( لا ) كالمزيد ؛ كما
تقدم عند قوله تعالى :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾ » .
لاحظ قوله :« و( لا أقسم ) بمعنى أقسم ) ، و ( لا ) مزيدة
للتوكيد » . ثم تأمل قوله :« وأصلها : نافية تدل على أن القائل لا يقدم على
القسم بما أقسم به ،
خشية سوء عاقبة الكذب في القسم » . وقوله :« وأصلها : أنها امتناع من
القسَم امتناع تحرُّج ، من أن يحلف بالمُقْسمِ به ، خشية الحنث » . وتذكر
أن المُقسِم هو الله عز وجل ! نسأله سبحانه أن يرزقنا نعمة الفهم لكلامه ،
والإدراك لأسرار بيانه ، وألا نقول فيه إلا صوابًا ، له الحمد وله المنَّة .
|
باندة الاسكندرية- مديرة منتدى
- تاريخ التسجيل : 03/02/2010
العمل/الترفيه : مهندسة
الموقع : منتدى ليلتي
رد: سر دخول ( لا ) النافية على فعل القسم
بارك الله فيك
جزاكي الله كل خير
وشكرا لكي اميرة على الشرح المفيد
دائما متميزة
تقبلي مروري
جزاكي الله كل خير
وشكرا لكي اميرة على الشرح المفيد
دائما متميزة
تقبلي مروري
|
Admin- المدير العام
- تاريخ التسجيل : 19/04/2009
العمل/الترفيه : مهندس
الموقع : www.ahladalil.net
مواضيع مماثلة
» قوانين القسم
» القسم العام
» كود تومبيلات اخر مواضيع القسم
» نصيحة وضوابط لكتاب القسم الإسلامي
» اكسسوارت ذهب القسم التاني المجموعة كاملة
» القسم العام
» كود تومبيلات اخر مواضيع القسم
» نصيحة وضوابط لكتاب القسم الإسلامي
» اكسسوارت ذهب القسم التاني المجموعة كاملة
إنشاء حساب أو تسجيل الدخول لتستطيع الرد
تحتاج إلى أن يكون عضوا لتستطيع الرد.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى