المواضيع الأخيرة
» Sondos
الأربعاء 28 أغسطس 2024, 07:35
» Sondos
الأربعاء 28 أغسطس 2024, 01:17
» Sondos
الثلاثاء 27 أغسطس 2024, 23:02
» Sondos
الثلاثاء 27 أغسطس 2024, 04:44
» Sondos
الثلاثاء 27 أغسطس 2024, 01:06
» Sondos
الإثنين 26 أغسطس 2024, 20:57
» Sondos
الأحد 25 أغسطس 2024, 23:20
» Sondos
الأحد 25 أغسطس 2024, 19:57
» Sondos
الثلاثاء 20 أغسطس 2024, 22:17
» Sondos
الإثنين 19 أغسطس 2024, 17:59
المواضيع الأكثر نشاطاً
ابن عوف - رضي الله عنه
ابن عوف - رضي الله عنه
:::ابن عوف - رضي الله عنه:::
:::الكـاتب : إبراهيم بن صالح العجلان:::
الخطبة الأولى:
معاشر المسلمين:
تحيا القلوب بذِكْر الصالحين، وتتطلَّع النفوس لمعرفة حياتِهم، وتُصغي الآذان لسماع أخبارهم، ولاسيَّما إذا كان أولئك هم أصحابَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذين اصْطفاهم الله لصُحْبة نبيِّه، واختارهم لتبْليغ رسالتِه، نقترب من حياة الأصْحاب الأخيار؛ لعلَّ قلوبنا تلين من قسوتِها، ونفوسنا تستيقظ من غفلتها، نقف مع أخبار القوم، في زمنٍ نُمطَر فيه بوابلٍ من الغزْو الثَّقافي، والمسْخ الأخلاقي، حتَّى ضاعتْ معاني القدوة الحسنة بين شبابِنا وناشِئَتنا ما بين مشرقٍ ومغرب.
نحنُ اليوم مع رجُل من رجالات المدرسة المحمَّدية، رجلٍ أَعجب أهلَ عصْره، جَمع الفضائل كلَّها، نبض قلبُه بالإيمان، فرخص في سبيل رضا ربِّه كل غالٍ ونفيس، كان مثالاً صادقًا للرجل الذي يُعطي ولا يأخذ، ويؤْثِر ولا يستأْثِر، ويَجود ولا يستجدي، أحد السَّابقين الأوَّلين، والعشَرة المبشَّرين، هاجر الهِجْرَتين، وشهِد بدرًا والمشاهد كلَّها بين يدَي النَّبي - صلى الله عليه وسلم -.
كان شريفَ النفس، عفيفَ اليد، كثيرَ المال، متينَ الحال، تجودُ يدُه بالأعطيات، وعينُه وقلبه بالعَبرات، نحنُ مع الغنيّ الشَّاكر، والتَّاجر النَّاجح، أبي محمَّد عبدالرحمن بن عوْف القرشيِّ - رضي الله عنه -.
إخوة الإيمان:
وُلد ابنُ عوفٍ بعد عام الفيل بعشر سنين، ونشأ نشأةً صافية، وعُرِف بين قومه بسداد رأيه، ورجاحة عقله.
كان لا يَأْبه بأعمال الجاهلية وعاداتِها، فكان ممَّن حرَّمَ الخمر في الجاهليَّة، وقال في ذمِّها:
رَأَيْتُ الخَمْرَ شَارِبُهَا مُعَنًّى *** بِرَجْعِ القَوْلِ أَوْ فَصْلِ الخِطَابِ
باشر الإيمانُ قلبَه منذ أن لاحت تباشير الإسلام في أيَّامه الأولى، أسلَمَ على يد الصِّدِّيق، بعد يومَيْن من إسلام الصدِّيق، فكان بذلك أحدَ الثَّمانية الَّذين لَم يَكُن على وجْه الأرض مسلمٌ غيرُهم.
كان اسمُه في الجاهليَّة: عبد الكعبة، وقيل: عبد عمرو، فسمَّاه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بـ: عبدالرحمن، وكان من مأْثور قوله بعد إسلامه:
أَجَبْتُ مُنَادِي اللَّهِ لَمَّا سَمِعْتُهُ *** يُنَادِي إِلَى الدِّينِ الحَنِيفِ المُكَرَّمِ
فَقُلْتُ لَهُ: بِالبُعْدِ لَبَّيْكَ دَاعِيًا *** إِلَيْكَ مَتَابِي بَلْ إِلَيْكَ تَيَمُّمِي
أَلا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ فِي الأَرْضِ كُلِّهِمْ *** نَبِيٌّ جَلا عَنَّا شُكُوكَ التَّرَجُّمِ
ثم كان ابن عوف بعد ذلك منَ الثُّلَّة المؤمنة الَّذين أوذوا بسبب إسلامهم، فصبروا وصابَروا، وما وهنوا لِمَا أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، وبسَبَب هذا البلاء والإيذاء الَّذي لا يطاق، هاجروا بأمْر النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الحبشة، ولسانُ حالهم:
وَإِذَا الدِّيَارُ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا *** فَدَعِ الدِّيَارَ وَبَادِرِ التَّحْوِيلا
لَيْسَ المَقَامُ عَلَيْكَ فَرْضًا وَاجِبًا *** فِي بَلْدَةٍ تَدَعُ العَزِيزَ ذَلِيلا
عاش ابن عوف في الحبشة ثلاثةَ أشهر، ثمَّ قفَل بعد ذلك إلى مكَّة، ثمَّ هاجر مرَّة أُخرى إلى الحبشة، ثمَّ عاد مرَّةً أخرى إلى مكَّة، ثمَّ أذِن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لصحابتِه بعد ذلك للهجرة إلى المدينة، فكانَ ابنُ عوف فيمَن خرج مهاجرًا في سبيل الله، ونال بذلك وِسام الثَّناء من ربِّه في قوله - تعالى -: (لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8].
دخل ابن عوف المدينة فقيرًا معدمًا، لا دِرْهم له ولا متاع، لا يَمْلك إلاَّ ثيابَه الَّتي عليْه، فآخَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيْنه وبين سعْد بْن الرَّبيع، فقال له سعْد بن الرَّبيع، بِحفاوةٍ إيمانيَّة صادقه، وكرم عربي أصيل: "يا عبدالرحمن، أنا أكثرُ أهل المدينة مالاً، فانظُرْ شطْر مالي فخُذْه، وتَحتي امرأتانِ، فانظُر أيَّتهنَّ أعجب لك حتَّى أُطلِّقَها لك وتتزوَّجها".
فقال له الشَّريف العفيف: "بارك الله لك في أهْلك ومالك، دلُّوني على سوق المدينة".
دخل ابنُ عَوفٍ سوقَ المدينة وعمره ثلاثٌ وأربعون سَنَة، وكان صنَّاع السّوق وسَمَاسِرته من يهود بني قينقاع، فلم يثْنِ عزيمتَه، ولم يفتَّ في همَّته هذا الاحتكارُ اليهودي، بل زاحمَ في السُّوق، واشترى وباع، وربح وادَّخر، وهكذا سارتْ به الأيَّام، وهو يكدح في العمل وطلَب الحلال والعفاف.
رآه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد مدَّة، في هيْئةٍ حسنة، وعليه أثر الطِّيب، فقال: ((ما هذا يا ابنَ عوف؟))، قال: يا رسولَ الله، تزوَّجتُ امرأةً على وزْن نواةٍ من ذهب، قال: ((باركَ الله لك، أَوْلِم ولو بِشاة)).
إخوة الإيمان:
يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((ما فتحَ إنسانٌ على نفسِه بابَ مسألة، إلاَّ فتح الله عليْه باب فقْر))؛ رواه الترمذي وغيره، وصحَّحه ابن حبان.
ومفهوم الحديث - عبادَ الله -: أنَّ العبد إذا عفَّ عن المسألة، واتَّقى ربَّه في طلب الحلال، مع فِعْل الأسباب - أغلقَ اللَّه دونَه أبواب الفَقْر، وهكذا كان ابنُ عوف، بسبَب عفافِ يدِه، وشرف نفْسه، فتح الله عليْه باب الرِّزق، وساعدَه في ذلك حماستُه في التِّجارة، وذكاؤه في استِجْلاب السِّلع، وطريقة تصْريفها.
سأله أحد أصحابه: بِمَ أدركتَ من التِّجارة ما أدْركتَ؟ فقال: "لأنِّي لم أشترِ معيبًا، ولم أُرِد ربحًا كثيرًا، والله يبارك لِمَنْ يشاء".
وبارك الله لابنِ عوف في تِجارتِه، فكان لا يشتري شيئًا إلاَّ ربِح فيه، حتَّى قال عن نفْسِه مُتَعجِّبًا: "لقد رأيتُني لو رفعتُ حجرًا، لوجدتُ تَحتَه فضَّة وذهبًا".
وهكذا أصبح الفقيرُ المُعْدم في سنواتٍ معْدودة مِن أثْرياء أهل المدينة، ومن أصحاب الأموال الضَّخْمة والأرْصدة العالية.
عباد الله:
أخبرنا ربُّنا - تعالى -أنَّ المال يفتن العبدَ ويُلهيه، وهو سلاح ذو حدَّين، إمَّا أن يُنجي أو يُردي؛(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل: 5 - 10].
لكنَّ ابنَ عوف كان له شأنٌ وأيُّ شأن مع هذا المال، نعم، لقد عرف ابن عوف كيف يجمع المال، ولكنَّه أيضًا، عرف كيف يُحسن استِخدام هذا المال، لَم يكن - رضي الله عنه - كدَّاسًا للثَّروات، جمَّاعًا للمال، في غير نفع ولا منْفعة، فسبحان مَن خَلَقَ السَّخاء والإنفاق، ثمَّ سلَّمه لابْنِ عوفَ! كان - رضي الله عنه - لا يهنأ إلاَّ بإنفاق المال، سرًّا وجهرًا، في العُسْر واليُسْر، حتَّى ملك القُلوبَ بِماله، فشاطرَه بالانتِفاع في هذا المال أهلُه وأقاربُه، وإخوانُه ومجتمعه، حتَّى قيل: كان أهلُ المدينة عيالاً على عبدالرحمن بن عوف: ثلُثٌ يُقْرِضهم مالَه، وثلُث يقضي دَينهم، ويَصِلُ ثلثًا.
* سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يدْعو النَّاس للصَّدقة، لكي يُجهِّز سريَّة، فذهب إلى بيْتِه مسرعًا ثُمَّ عاد، ونثَر بين يدَي النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف دينار، هي نِصْف مالِه، فدعا له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ماله.
* قدَّم يومًا لجيوش الإسلام خمسَمائةِ فرسٍ، ومرَّة ألفًا وخمسمائة راحلة.
* باع يومًا أرضًا بأرْبعين ألف درهم، فقسمها في فقراء أقاربه، والمهاجرين وأمَّهات المؤمنين.
* في غزوة تَبُوك، حينما كان الحاجةُ للمال أكثرَ من الرجال، أنفقَ ابنُ عوف إنفاق مَن لا يخْشى الفقر.
* وتصدَّق بصدقةٍ عظيمة، حتَّى قال عمر بن الخطَّاب بعد أن رأى كثرةَ صدقتِه: "إنّي لا أرى عبدالرَّحمن إلاَّ مرتكبًا إثمًا، فما ترك لأهله شيئًا! ".
وغمزه المنافقون ولَمزوه بالرِّياء، مِن كثرة ما جاء به إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - عز وجل -: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ) [التوبة: 79].
كان دائمًا - رضي الله عنه - ما يتفقَّد أحْوال أمَّهات المؤمنين، ينهض بحوائجهنَّ، ويسعى في أمورهنَّ، ويحج معهنَّ إذا حججْن، أرسل يومًا مالاً وفيرًا لعائشة - رضي الله عنها - فقالتْ: سقى الله ابن عوف من سلْسبيل الجنة، سمعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يَحنو عليْكنَّ بعْدي إلاَّ الصَّابرون)) رواه التّرمذي، وصحَّحه ابن حبَّان.
إخوة الإيمان:
ومع هذا المال وتلك الثَّروة، كان ابن عوف - رضي الله عنه - يَحمل بين جنبيْه نفسًا صغيرة مُتواضعة، لا تعرف الكِبْر ولا التَّعالي، حتَّى قيل: لوْ رآه غريبٌ لَم يعْرفه بين عبيده وخدمِه.
لقد كان - رضي الله عنه - مثالاً حقًّا للمؤْمِن الغنيِّ الزَّاهد.
يُطْعَنُ الفارُوق - رضي الله عنه - فيجعل أمْر المسلمين بين ستَّة من الصَّحابة، والَّذين توفِّي رسولُ الله وهو عنهم راضٍ، وكان منهم عبدالرحمن بن عوف، فتنازَل - رضي الله عنه - عن المنصب وزَهَد في الخلافة، ورضي أن تُجعَل في الخمسة الباقين.
كان - رضي الله عنه - صوَّامًا قوَّامًا، شجاعًا مقدامًا، لَم يتخلَّف عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ قطّ.
وكان من القلَّة الَّذين ثبتوا بين يدَي النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد، فَهُتِمَ فمُه، وسَقَطَتْ ثَنيَّتاه، وخرج من هذه الغزوة وفيه بضعةٌ وعشرون جرحًا، بعضها عميق تدخل فيه يد الرَّجُل.
وأمَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - على جيش فيه أبو بكر وعمر، وسيَّره إلى دومة الجنْدل، ليؤدِّب القبائل التي كانتْ تُغير على قوافل المسلمين.
عباد الله:
ومع هذه الفضائل الكبرى يبقى لابن عوف وسام لا يعْدِله وسام، وتاجٌ تمتدُّ نحوَه الأعناق، وتهفو إليه (النفوس)، إنَّه إكرام الله - تعالى -له، حينما صلَّى خلفه إمام الأنبياء، وسيِّد الأوَّلين والآخرين - صلى الله عليه وسلم - وذلك في غزوة تبوك، حينما خرج رسولنا إلى حاجته في السَّحَر، فأبطأ على الناس، فقدَّم الناسُ ابنَ عوف يصلِّي بهم، فأدْركَهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الرَّكعة الثَّانية، فهمَّ ابنُ عوفٍ أن يرجع مأمومًا، فأشار إليْه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ أتمَّ صلاتك، فأتَمَّها إمامًا، هذا الشَّرَف لَم يتقلَّدْه إلاَّ ابنُ عوف، ثُم الصدِّيق بعد ذلك في مرَض النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذي مات فيه.
ومن فضائِل ابْنِ عوفٍ: مكانته في قلْب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ودِفَاعه عنْه في كثيرٍ من المواقف، حصل بين خالدِ بن الوليد وعبدالرحمن بن عوف مشادَّةٌ كلاميَّة؛ بسبب أسرى جذيمة، فأسْمعَ كلٌّ منهما ما يؤْذي الآخر، فبلغ ذلك النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال لخالد مبيِّنًا فضل عبدالرحمن بن عوف: ((دعُوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدٌ مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)).
أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم: (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23].
بارك الله لي ولكُم في القُرآن، ونفعني وإيَّاكم بهدْي سيِّد المرسلين، أقول ما سمعتُم وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريك له، له الحمْد في الأولى والأخرى، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، النبيُّ المرتضَى، والرَّسول المجتبى، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحْبِه ما دامت الأرضُ والسَّماء.
أما بعدُ، فيا عباد الله:
ومِن معالِم شخصيَّة ابن عوف: أنَّه كان واسعَ العلم، معدودًا في فُقهاء الصَّحابة - رضي الله عنهم - وهو أحد النَّفَر القلائل، الَّذين كانوا يُفْتون في المدينة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حي.
وقد حدَّثَتْنا دواوينُ السنَّة وكتب التَّاريخ أنَّ ابن عوف قد فصل في عدَّة حوادث أُعضلتْ على الصَّحابة، واحتارتْ فهومُهم فيها، فحينما احتار الفاروق في أمْر المجوس، جاءه العلْم والخبَر من الخبير عبدالرحمن بن عوف، فقال: أشهد أنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((سنُّوا فيهم سُنَّة أهل الكتاب))، فأخذ عمرُ الجزْية من مَجوس هجر، ولمَّا خرج عمرُ إلى الشَّام، جاءه الخبر وهو في الطَّريق أنَّ الطاعون قد حلَّ بالنَّاس، فأوقف الفاروق المسير، واستشار النَّاس في ذلك، فمنهم مَن رأى الذَّهاب والتوكُّل على الله، ومنهم مَن رأى الرُّجوع، فجاء ابن عوف وفصل في القضيَّة، بأنَّه سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا سمعتُم به بأرضٍ فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها، فلا تخرجوا فرارًا منه))، فرجع عمر بعد ذلك قافلاً إلى المدينة.
وحينما رأى عمر أيضًا جُرأةَ النَّاس على شُرْب الخمر، استشار الصَّحابة في زيادة الحدّ؛ لكي يرتدع الفسَقةُ عنها، فأشار عليْه عبدالرحمن بن عوف بثمانين جلدةً؛ لأنَّ أخفَّ الحدود ثمانون، فأخذ عمر برأيه، وعمل به الخلفاءُ بعده.
كان ابنُ عوف - رضي الله عنه - مُرْهَفَ الإحساس، كثير المحاسبة للنفس، تدمع عينُه إذا تذكَّر حال أمسِه ويومه، ويبكي كثيرًا إذا تذكَّر الحال التي كان عليها نبيُّه وحبيبه - صلى الله عليه وسلم -.
اجتمع يومًا بعضُ أصحابه عنده على طعامٍ له، وما كاد الطَّعام يُوضع حتَّى بكى ابنُ عوف، فسألوه: ما يبكيك يا أبا محمَّد؟ فقال: "لقد مات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما شَبِع هو وأهلُ بيتِه من خبز الشَّعير".
وفي آخِر حياته أوْصى بكثيرٍ من ماله، فأوْصى بخمسين ألفَ دينار صدقةً في سبيل الله، وأوْصى بألف فرس لجيوش الإسلام، وأعتق خلقًا كثيرًا من مَماليكِه، ولم ينسَ إخوانه أهْلَ بدْر، فأوْصى لهم من ماله، وكانوا مائة، فأُعْطيَ كلُّ واحدٍ منهم أربعمائة دينار.
ثمَّ بعد ذلك جاءَه أمر الله، الذي لا يخطئ أحدًا من البشر، فمرض - رضي الله عنه - ولازمته الأوجاع، فلزم بيته شهرًا، وكان في أيَّامه تلك كثيرَ الصَّوم والاستغفار، جيءَ له بإفطاره يومًا، وكان صائمًا، فلمَّا وقعتْ عينه على الطَّعام جال في خاطره شريطُ الذِّكْريات، فتذكَّر إخوانه المهاجرين الأوَّلين، والحال الَّتي ماتوا عليها، فَفَقَدَ شهية الطَّعام، وسَكَبتْ عينه دمعاتٍ حارَّات، وقال: "استُشْهِد مصعب بن عمير وهو خيرٌ منِّي، فكفِّن في بُرْدة، إن غَطَّتْ رأسَه بدتْ رِجْلاه، وإن غطَّتْ رجلَيْه بدا رأسُه، واستشهد حَمزةُ - وهو خير منِّي - فلم يُوجدْ له ما يُكفَّنُ فيه إلاَّ بردة، ثمَّ بُسط لنا من الدُّنيا ما بُسط، وأُعْطينا منها ما أُعْطينا، وإنِّي لأخشى أن تكونَ قد عجِّلت لنا حسناتُنا" ثمَّ أمر بالطَّعام فرفع.
وفي أيَّامه تلك عرضتْ عليه أمُّ المؤمنين عائشةُ - رضي الله عنها - أن يُدْفَن في حجرتها إلى جوار الصدِّيق والفاروق، فاعتذر - رضي الله عنه - عن هذا التَّشريف العظيم؛ لأنَّه تذكَّر ميثاقه وعهْده مع أخيه عثمان بن مظعون، عندما توافَقَا وتعاهَدَا أيَّام حياة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أيهما مات بعدَ الآخر أن يُدفن إلى جوار صاحبه، وما هي إلاَّ أيَّامٌ قلائل، حتَّى فاضتْ رُوحه الزكيَّة، ولقي ربَّه مؤمنًا صادقًا زاهدًا، بعد حياة مليئة بالعلم والتُّقى، والبذْل والإنفاق، وتأثَّر أهل المدينة برَحيلِه، وبكى عليه القريبُ والبعيدُ، والكبيرُ والصغيرُ، والجار والصديق.
وقف عليٌّ - رضي الله عنه - على جنازته قبل دفنه فقال: "اذهب يا ابن عوف، فقد أدركْتَ صفْوَها، وسبقت رنْقَها".
والرنْق: الكدر.
وفي البقيع ثُوِي جثمان ذاك الجواد الكريم، مع إخوانه الصَّحْب الكرام، رحل ابن عوف لكن اسمه ونفقاته ستبْقى محفورة في ذاكرة الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وستبقى الأمَّة تترضَّى عنْه.
اللهُمَّ صلِّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد.
:::الكـاتب : إبراهيم بن صالح العجلان:::
الخطبة الأولى:
معاشر المسلمين:
تحيا القلوب بذِكْر الصالحين، وتتطلَّع النفوس لمعرفة حياتِهم، وتُصغي الآذان لسماع أخبارهم، ولاسيَّما إذا كان أولئك هم أصحابَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذين اصْطفاهم الله لصُحْبة نبيِّه، واختارهم لتبْليغ رسالتِه، نقترب من حياة الأصْحاب الأخيار؛ لعلَّ قلوبنا تلين من قسوتِها، ونفوسنا تستيقظ من غفلتها، نقف مع أخبار القوم، في زمنٍ نُمطَر فيه بوابلٍ من الغزْو الثَّقافي، والمسْخ الأخلاقي، حتَّى ضاعتْ معاني القدوة الحسنة بين شبابِنا وناشِئَتنا ما بين مشرقٍ ومغرب.
نحنُ اليوم مع رجُل من رجالات المدرسة المحمَّدية، رجلٍ أَعجب أهلَ عصْره، جَمع الفضائل كلَّها، نبض قلبُه بالإيمان، فرخص في سبيل رضا ربِّه كل غالٍ ونفيس، كان مثالاً صادقًا للرجل الذي يُعطي ولا يأخذ، ويؤْثِر ولا يستأْثِر، ويَجود ولا يستجدي، أحد السَّابقين الأوَّلين، والعشَرة المبشَّرين، هاجر الهِجْرَتين، وشهِد بدرًا والمشاهد كلَّها بين يدَي النَّبي - صلى الله عليه وسلم -.
كان شريفَ النفس، عفيفَ اليد، كثيرَ المال، متينَ الحال، تجودُ يدُه بالأعطيات، وعينُه وقلبه بالعَبرات، نحنُ مع الغنيّ الشَّاكر، والتَّاجر النَّاجح، أبي محمَّد عبدالرحمن بن عوْف القرشيِّ - رضي الله عنه -.
إخوة الإيمان:
وُلد ابنُ عوفٍ بعد عام الفيل بعشر سنين، ونشأ نشأةً صافية، وعُرِف بين قومه بسداد رأيه، ورجاحة عقله.
كان لا يَأْبه بأعمال الجاهلية وعاداتِها، فكان ممَّن حرَّمَ الخمر في الجاهليَّة، وقال في ذمِّها:
رَأَيْتُ الخَمْرَ شَارِبُهَا مُعَنًّى *** بِرَجْعِ القَوْلِ أَوْ فَصْلِ الخِطَابِ
باشر الإيمانُ قلبَه منذ أن لاحت تباشير الإسلام في أيَّامه الأولى، أسلَمَ على يد الصِّدِّيق، بعد يومَيْن من إسلام الصدِّيق، فكان بذلك أحدَ الثَّمانية الَّذين لَم يَكُن على وجْه الأرض مسلمٌ غيرُهم.
كان اسمُه في الجاهليَّة: عبد الكعبة، وقيل: عبد عمرو، فسمَّاه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بـ: عبدالرحمن، وكان من مأْثور قوله بعد إسلامه:
أَجَبْتُ مُنَادِي اللَّهِ لَمَّا سَمِعْتُهُ *** يُنَادِي إِلَى الدِّينِ الحَنِيفِ المُكَرَّمِ
فَقُلْتُ لَهُ: بِالبُعْدِ لَبَّيْكَ دَاعِيًا *** إِلَيْكَ مَتَابِي بَلْ إِلَيْكَ تَيَمُّمِي
أَلا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ فِي الأَرْضِ كُلِّهِمْ *** نَبِيٌّ جَلا عَنَّا شُكُوكَ التَّرَجُّمِ
ثم كان ابن عوف بعد ذلك منَ الثُّلَّة المؤمنة الَّذين أوذوا بسبب إسلامهم، فصبروا وصابَروا، وما وهنوا لِمَا أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، وبسَبَب هذا البلاء والإيذاء الَّذي لا يطاق، هاجروا بأمْر النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الحبشة، ولسانُ حالهم:
وَإِذَا الدِّيَارُ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا *** فَدَعِ الدِّيَارَ وَبَادِرِ التَّحْوِيلا
لَيْسَ المَقَامُ عَلَيْكَ فَرْضًا وَاجِبًا *** فِي بَلْدَةٍ تَدَعُ العَزِيزَ ذَلِيلا
عاش ابن عوف في الحبشة ثلاثةَ أشهر، ثمَّ قفَل بعد ذلك إلى مكَّة، ثمَّ هاجر مرَّة أُخرى إلى الحبشة، ثمَّ عاد مرَّةً أخرى إلى مكَّة، ثمَّ أذِن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لصحابتِه بعد ذلك للهجرة إلى المدينة، فكانَ ابنُ عوف فيمَن خرج مهاجرًا في سبيل الله، ونال بذلك وِسام الثَّناء من ربِّه في قوله - تعالى -: (لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8].
دخل ابن عوف المدينة فقيرًا معدمًا، لا دِرْهم له ولا متاع، لا يَمْلك إلاَّ ثيابَه الَّتي عليْه، فآخَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيْنه وبين سعْد بْن الرَّبيع، فقال له سعْد بن الرَّبيع، بِحفاوةٍ إيمانيَّة صادقه، وكرم عربي أصيل: "يا عبدالرحمن، أنا أكثرُ أهل المدينة مالاً، فانظُرْ شطْر مالي فخُذْه، وتَحتي امرأتانِ، فانظُر أيَّتهنَّ أعجب لك حتَّى أُطلِّقَها لك وتتزوَّجها".
فقال له الشَّريف العفيف: "بارك الله لك في أهْلك ومالك، دلُّوني على سوق المدينة".
دخل ابنُ عَوفٍ سوقَ المدينة وعمره ثلاثٌ وأربعون سَنَة، وكان صنَّاع السّوق وسَمَاسِرته من يهود بني قينقاع، فلم يثْنِ عزيمتَه، ولم يفتَّ في همَّته هذا الاحتكارُ اليهودي، بل زاحمَ في السُّوق، واشترى وباع، وربح وادَّخر، وهكذا سارتْ به الأيَّام، وهو يكدح في العمل وطلَب الحلال والعفاف.
رآه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد مدَّة، في هيْئةٍ حسنة، وعليه أثر الطِّيب، فقال: ((ما هذا يا ابنَ عوف؟))، قال: يا رسولَ الله، تزوَّجتُ امرأةً على وزْن نواةٍ من ذهب، قال: ((باركَ الله لك، أَوْلِم ولو بِشاة)).
إخوة الإيمان:
يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((ما فتحَ إنسانٌ على نفسِه بابَ مسألة، إلاَّ فتح الله عليْه باب فقْر))؛ رواه الترمذي وغيره، وصحَّحه ابن حبان.
ومفهوم الحديث - عبادَ الله -: أنَّ العبد إذا عفَّ عن المسألة، واتَّقى ربَّه في طلب الحلال، مع فِعْل الأسباب - أغلقَ اللَّه دونَه أبواب الفَقْر، وهكذا كان ابنُ عوف، بسبَب عفافِ يدِه، وشرف نفْسه، فتح الله عليْه باب الرِّزق، وساعدَه في ذلك حماستُه في التِّجارة، وذكاؤه في استِجْلاب السِّلع، وطريقة تصْريفها.
سأله أحد أصحابه: بِمَ أدركتَ من التِّجارة ما أدْركتَ؟ فقال: "لأنِّي لم أشترِ معيبًا، ولم أُرِد ربحًا كثيرًا، والله يبارك لِمَنْ يشاء".
وبارك الله لابنِ عوف في تِجارتِه، فكان لا يشتري شيئًا إلاَّ ربِح فيه، حتَّى قال عن نفْسِه مُتَعجِّبًا: "لقد رأيتُني لو رفعتُ حجرًا، لوجدتُ تَحتَه فضَّة وذهبًا".
وهكذا أصبح الفقيرُ المُعْدم في سنواتٍ معْدودة مِن أثْرياء أهل المدينة، ومن أصحاب الأموال الضَّخْمة والأرْصدة العالية.
عباد الله:
أخبرنا ربُّنا - تعالى -أنَّ المال يفتن العبدَ ويُلهيه، وهو سلاح ذو حدَّين، إمَّا أن يُنجي أو يُردي؛(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل: 5 - 10].
لكنَّ ابنَ عوف كان له شأنٌ وأيُّ شأن مع هذا المال، نعم، لقد عرف ابن عوف كيف يجمع المال، ولكنَّه أيضًا، عرف كيف يُحسن استِخدام هذا المال، لَم يكن - رضي الله عنه - كدَّاسًا للثَّروات، جمَّاعًا للمال، في غير نفع ولا منْفعة، فسبحان مَن خَلَقَ السَّخاء والإنفاق، ثمَّ سلَّمه لابْنِ عوفَ! كان - رضي الله عنه - لا يهنأ إلاَّ بإنفاق المال، سرًّا وجهرًا، في العُسْر واليُسْر، حتَّى ملك القُلوبَ بِماله، فشاطرَه بالانتِفاع في هذا المال أهلُه وأقاربُه، وإخوانُه ومجتمعه، حتَّى قيل: كان أهلُ المدينة عيالاً على عبدالرحمن بن عوف: ثلُثٌ يُقْرِضهم مالَه، وثلُث يقضي دَينهم، ويَصِلُ ثلثًا.
* سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يدْعو النَّاس للصَّدقة، لكي يُجهِّز سريَّة، فذهب إلى بيْتِه مسرعًا ثُمَّ عاد، ونثَر بين يدَي النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف دينار، هي نِصْف مالِه، فدعا له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في ماله.
* قدَّم يومًا لجيوش الإسلام خمسَمائةِ فرسٍ، ومرَّة ألفًا وخمسمائة راحلة.
* باع يومًا أرضًا بأرْبعين ألف درهم، فقسمها في فقراء أقاربه، والمهاجرين وأمَّهات المؤمنين.
* في غزوة تَبُوك، حينما كان الحاجةُ للمال أكثرَ من الرجال، أنفقَ ابنُ عوف إنفاق مَن لا يخْشى الفقر.
* وتصدَّق بصدقةٍ عظيمة، حتَّى قال عمر بن الخطَّاب بعد أن رأى كثرةَ صدقتِه: "إنّي لا أرى عبدالرَّحمن إلاَّ مرتكبًا إثمًا، فما ترك لأهله شيئًا! ".
وغمزه المنافقون ولَمزوه بالرِّياء، مِن كثرة ما جاء به إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - عز وجل -: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ) [التوبة: 79].
كان دائمًا - رضي الله عنه - ما يتفقَّد أحْوال أمَّهات المؤمنين، ينهض بحوائجهنَّ، ويسعى في أمورهنَّ، ويحج معهنَّ إذا حججْن، أرسل يومًا مالاً وفيرًا لعائشة - رضي الله عنها - فقالتْ: سقى الله ابن عوف من سلْسبيل الجنة، سمعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يَحنو عليْكنَّ بعْدي إلاَّ الصَّابرون)) رواه التّرمذي، وصحَّحه ابن حبَّان.
إخوة الإيمان:
ومع هذا المال وتلك الثَّروة، كان ابن عوف - رضي الله عنه - يَحمل بين جنبيْه نفسًا صغيرة مُتواضعة، لا تعرف الكِبْر ولا التَّعالي، حتَّى قيل: لوْ رآه غريبٌ لَم يعْرفه بين عبيده وخدمِه.
لقد كان - رضي الله عنه - مثالاً حقًّا للمؤْمِن الغنيِّ الزَّاهد.
يُطْعَنُ الفارُوق - رضي الله عنه - فيجعل أمْر المسلمين بين ستَّة من الصَّحابة، والَّذين توفِّي رسولُ الله وهو عنهم راضٍ، وكان منهم عبدالرحمن بن عوف، فتنازَل - رضي الله عنه - عن المنصب وزَهَد في الخلافة، ورضي أن تُجعَل في الخمسة الباقين.
كان - رضي الله عنه - صوَّامًا قوَّامًا، شجاعًا مقدامًا، لَم يتخلَّف عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ قطّ.
وكان من القلَّة الَّذين ثبتوا بين يدَي النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد، فَهُتِمَ فمُه، وسَقَطَتْ ثَنيَّتاه، وخرج من هذه الغزوة وفيه بضعةٌ وعشرون جرحًا، بعضها عميق تدخل فيه يد الرَّجُل.
وأمَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - على جيش فيه أبو بكر وعمر، وسيَّره إلى دومة الجنْدل، ليؤدِّب القبائل التي كانتْ تُغير على قوافل المسلمين.
عباد الله:
ومع هذه الفضائل الكبرى يبقى لابن عوف وسام لا يعْدِله وسام، وتاجٌ تمتدُّ نحوَه الأعناق، وتهفو إليه (النفوس)، إنَّه إكرام الله - تعالى -له، حينما صلَّى خلفه إمام الأنبياء، وسيِّد الأوَّلين والآخرين - صلى الله عليه وسلم - وذلك في غزوة تبوك، حينما خرج رسولنا إلى حاجته في السَّحَر، فأبطأ على الناس، فقدَّم الناسُ ابنَ عوف يصلِّي بهم، فأدْركَهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الرَّكعة الثَّانية، فهمَّ ابنُ عوفٍ أن يرجع مأمومًا، فأشار إليْه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ أتمَّ صلاتك، فأتَمَّها إمامًا، هذا الشَّرَف لَم يتقلَّدْه إلاَّ ابنُ عوف، ثُم الصدِّيق بعد ذلك في مرَض النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذي مات فيه.
ومن فضائِل ابْنِ عوفٍ: مكانته في قلْب النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ودِفَاعه عنْه في كثيرٍ من المواقف، حصل بين خالدِ بن الوليد وعبدالرحمن بن عوف مشادَّةٌ كلاميَّة؛ بسبب أسرى جذيمة، فأسْمعَ كلٌّ منهما ما يؤْذي الآخر، فبلغ ذلك النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال لخالد مبيِّنًا فضل عبدالرحمن بن عوف: ((دعُوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدٌ مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)).
أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم: (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23].
بارك الله لي ولكُم في القُرآن، ونفعني وإيَّاكم بهدْي سيِّد المرسلين، أقول ما سمعتُم وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريك له، له الحمْد في الأولى والأخرى، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، النبيُّ المرتضَى، والرَّسول المجتبى، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحْبِه ما دامت الأرضُ والسَّماء.
أما بعدُ، فيا عباد الله:
ومِن معالِم شخصيَّة ابن عوف: أنَّه كان واسعَ العلم، معدودًا في فُقهاء الصَّحابة - رضي الله عنهم - وهو أحد النَّفَر القلائل، الَّذين كانوا يُفْتون في المدينة ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حي.
وقد حدَّثَتْنا دواوينُ السنَّة وكتب التَّاريخ أنَّ ابن عوف قد فصل في عدَّة حوادث أُعضلتْ على الصَّحابة، واحتارتْ فهومُهم فيها، فحينما احتار الفاروق في أمْر المجوس، جاءه العلْم والخبَر من الخبير عبدالرحمن بن عوف، فقال: أشهد أنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((سنُّوا فيهم سُنَّة أهل الكتاب))، فأخذ عمرُ الجزْية من مَجوس هجر، ولمَّا خرج عمرُ إلى الشَّام، جاءه الخبر وهو في الطَّريق أنَّ الطاعون قد حلَّ بالنَّاس، فأوقف الفاروق المسير، واستشار النَّاس في ذلك، فمنهم مَن رأى الذَّهاب والتوكُّل على الله، ومنهم مَن رأى الرُّجوع، فجاء ابن عوف وفصل في القضيَّة، بأنَّه سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا سمعتُم به بأرضٍ فلا تَقْدَموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها، فلا تخرجوا فرارًا منه))، فرجع عمر بعد ذلك قافلاً إلى المدينة.
وحينما رأى عمر أيضًا جُرأةَ النَّاس على شُرْب الخمر، استشار الصَّحابة في زيادة الحدّ؛ لكي يرتدع الفسَقةُ عنها، فأشار عليْه عبدالرحمن بن عوف بثمانين جلدةً؛ لأنَّ أخفَّ الحدود ثمانون، فأخذ عمر برأيه، وعمل به الخلفاءُ بعده.
كان ابنُ عوف - رضي الله عنه - مُرْهَفَ الإحساس، كثير المحاسبة للنفس، تدمع عينُه إذا تذكَّر حال أمسِه ويومه، ويبكي كثيرًا إذا تذكَّر الحال التي كان عليها نبيُّه وحبيبه - صلى الله عليه وسلم -.
اجتمع يومًا بعضُ أصحابه عنده على طعامٍ له، وما كاد الطَّعام يُوضع حتَّى بكى ابنُ عوف، فسألوه: ما يبكيك يا أبا محمَّد؟ فقال: "لقد مات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما شَبِع هو وأهلُ بيتِه من خبز الشَّعير".
وفي آخِر حياته أوْصى بكثيرٍ من ماله، فأوْصى بخمسين ألفَ دينار صدقةً في سبيل الله، وأوْصى بألف فرس لجيوش الإسلام، وأعتق خلقًا كثيرًا من مَماليكِه، ولم ينسَ إخوانه أهْلَ بدْر، فأوْصى لهم من ماله، وكانوا مائة، فأُعْطيَ كلُّ واحدٍ منهم أربعمائة دينار.
ثمَّ بعد ذلك جاءَه أمر الله، الذي لا يخطئ أحدًا من البشر، فمرض - رضي الله عنه - ولازمته الأوجاع، فلزم بيته شهرًا، وكان في أيَّامه تلك كثيرَ الصَّوم والاستغفار، جيءَ له بإفطاره يومًا، وكان صائمًا، فلمَّا وقعتْ عينه على الطَّعام جال في خاطره شريطُ الذِّكْريات، فتذكَّر إخوانه المهاجرين الأوَّلين، والحال الَّتي ماتوا عليها، فَفَقَدَ شهية الطَّعام، وسَكَبتْ عينه دمعاتٍ حارَّات، وقال: "استُشْهِد مصعب بن عمير وهو خيرٌ منِّي، فكفِّن في بُرْدة، إن غَطَّتْ رأسَه بدتْ رِجْلاه، وإن غطَّتْ رجلَيْه بدا رأسُه، واستشهد حَمزةُ - وهو خير منِّي - فلم يُوجدْ له ما يُكفَّنُ فيه إلاَّ بردة، ثمَّ بُسط لنا من الدُّنيا ما بُسط، وأُعْطينا منها ما أُعْطينا، وإنِّي لأخشى أن تكونَ قد عجِّلت لنا حسناتُنا" ثمَّ أمر بالطَّعام فرفع.
وفي أيَّامه تلك عرضتْ عليه أمُّ المؤمنين عائشةُ - رضي الله عنها - أن يُدْفَن في حجرتها إلى جوار الصدِّيق والفاروق، فاعتذر - رضي الله عنه - عن هذا التَّشريف العظيم؛ لأنَّه تذكَّر ميثاقه وعهْده مع أخيه عثمان بن مظعون، عندما توافَقَا وتعاهَدَا أيَّام حياة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أيهما مات بعدَ الآخر أن يُدفن إلى جوار صاحبه، وما هي إلاَّ أيَّامٌ قلائل، حتَّى فاضتْ رُوحه الزكيَّة، ولقي ربَّه مؤمنًا صادقًا زاهدًا، بعد حياة مليئة بالعلم والتُّقى، والبذْل والإنفاق، وتأثَّر أهل المدينة برَحيلِه، وبكى عليه القريبُ والبعيدُ، والكبيرُ والصغيرُ، والجار والصديق.
وقف عليٌّ - رضي الله عنه - على جنازته قبل دفنه فقال: "اذهب يا ابن عوف، فقد أدركْتَ صفْوَها، وسبقت رنْقَها".
والرنْق: الكدر.
وفي البقيع ثُوِي جثمان ذاك الجواد الكريم، مع إخوانه الصَّحْب الكرام، رحل ابن عوف لكن اسمه ونفقاته ستبْقى محفورة في ذاكرة الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وستبقى الأمَّة تترضَّى عنْه.
اللهُمَّ صلِّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد.
|
ابو المجد- المدير العام
- تاريخ التسجيل : 20/04/2009
العمل/الترفيه : تقني
الموقع : المغرب
رد: ابن عوف - رضي الله عنه
دائما متميز في الانتقاء
سلمت على روعه طرحك
نترقب المزيد من جديدك الرائع
دمت ودام لنا روعه مواضيعك
لكـ خالص احترامي
سلمت على روعه طرحك
نترقب المزيد من جديدك الرائع
دمت ودام لنا روعه مواضيعك
لكـ خالص احترامي
|
نزهة- مديرة منتدى
- تاريخ التسجيل : 21/11/2013
الموقع : http://moslima.banouta.net/forum
رد: ابن عوف - رضي الله عنه
بارك الله فيك
موضـــوع راااااااائــــــــــع جدااا
ومجهود يستحق الثناء والتقدير
موضـــوع راااااااائــــــــــع جدااا
ومجهود يستحق الثناء والتقدير
|
Admin- المدير العام
- تاريخ التسجيل : 19/04/2009
العمل/الترفيه : مهندس
الموقع : www.ahladalil.net
رد: ابن عوف - رضي الله عنه
نحن لآ نپحث عن آلمرچآن
پل ننتقي چوآهره
گي يگون تحفة نآدرة پيننآ
عطآء وعطآء دآئم
چزآگ آلله خيرآ
پل ننتقي چوآهره
گي يگون تحفة نآدرة پيننآ
عطآء وعطآء دآئم
چزآگ آلله خيرآ
|
محمد الفلكي- مدير عام
- تاريخ التسجيل : 12/09/2013
رد: ابن عوف - رضي الله عنه
سلمت اناملك الندية على ماسكبته من شهد
صفحاتك تشع بجمال ذائقتك كعادتك
لاحرمنا الله جمال حظورك واطروحاتك
|
المسافر البعيد- مدير عام
- تاريخ التسجيل : 18/11/2010
الموقع : www.gold.keuf.net
مواضيع مماثلة
» الله و أكبر الله الله برعاية maxpayne2 الله ينتقم من اليهود -فديو- حصرياً
» أنظروا لهذه الصورة بسم الله ما شاء الله= غدخلو و شفوو يالا يااا مشاء الله
» سيدة نساء الأمة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها
» لم جعل الله معراجا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصل به إلى السموات
» مولد رسول الله: كتاب يجمع فصولا مختيرة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
» أنظروا لهذه الصورة بسم الله ما شاء الله= غدخلو و شفوو يالا يااا مشاء الله
» سيدة نساء الأمة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها
» لم جعل الله معراجا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصل به إلى السموات
» مولد رسول الله: كتاب يجمع فصولا مختيرة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنشاء حساب أو تسجيل الدخول لتستطيع الرد
تحتاج إلى أن يكون عضوا لتستطيع الرد.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى